كلمـة
معالي السيد أحمد أبو الغيط
أمين عام جامعة الدول العربية
مسقط: 8/2/2023
السيد اللواء الركن بحري/ على بن عبد الله الشيدي
آمر كلية الدفاع الوطني بأكاديمية الدراسات الاستراتيجية والدفاعية
الحضور الكريم.
اسمحوا لي في البداية أن أعبر عن السعادة البالغة لوجودي بينكم اليوم.. في سلطنة عمان العزيزة وفي كلية الدفاع الوطني التي أحمل لها، ولأبنائها ومنتسبيها كل المودة والمحبة، فضلاً عن الاعجاب والتقدير.. إذ لدي اقتناع راسخ بأن المؤسسة العسكرية الناجحة هي تلك التي تفتح أبوابها للخبرات من كل اتجاه.. ولا تبني بينها وبين العالم الخارجي الحوائط والجدران.. بل الجسور وقنوات التواصل والفهم المشترك… فالعسكرية، كما تعلمون، أبعد وأعمق من التخصص في الحروب والأمن.. وهي تبني على خبراتٍ من كافة المجالات والأنشطة الإنسانية، مستفيدةً من كافة الرؤى والأفكار.
وأود أن أركز حديثي اليوم على قراءة للوضع العالمي، كما أرصده وأتابع تطوراته المتلاحقة وتغيراته الهائلة.. ثم أتناول بعدها تأثيرات هذه التغيرات على المنطقة العربية، ورؤيتي لما يُمكن أن تكون عليه الاستراتيجية العربية في التعامل مع هذه التغيرات العالمية.
وأوجز قراءتي للوضع العالمي في أربع نقاط مختصرة:
أولاً: ولوج عصر الأزمة الممتدة أو المستمرة:
إن ما نواجهه اليوم على الصعيد العالمي ليس أزمة واحدة، ولا حتى عدة أزمات متداخلة.. وإنما عدداً من الأزمات المستمرة أو المستديمة، والتي وصفها البعض بالإنجليزية باستخدام تعبير Permacrisis.. ويعني ذلك أن الأزمة لا تصير حدثاً طارئاً يجري تجاوزه، وإنما واقعاً مستمراً يتعين التعايش معه والتعامل مع تبعاته.
لقد عبر العالم من قبل أزماتٍ اقتصادية خطيرة، مثل الأزمة العالمية في 2008 و2009.. وأزمات جيوسياسية تُهدد الأمن والاستقرار، مثل الحرب على الإرهاب.. ولكن هذه هي المرة الأولى منذ عقودٍ طويلة.. التي يُعاني فيها العالم كله تقريباً من عددٍ من الأزمات المتلاحقة المتداخلة.. سواء على صعيد الصحة أو المناخ، أو الاقتصاد العالمي أو الأمن.. والأخطر أن تلك الأزمات لا يُنتظر لها حلٌ سريع أو مخرجٌ عاجل… بل صفتها الرئيسية هي الاستمرارية لفتراتٍ طويلة، مع تبعات ممتدة وعميقة الأثر.. وسوف أفصل لاحقاً عدداً من هذه الأزمات، وتقيمي لمخاطرها وآثارها.
ثانياً: استمرار الأزمة الأوكرانية واحتمال تزايد مخاطرها:
إن الحرب الروسية- الأوكرانية، التي توشك أن تدخل عامها الثاني، ليست مرشحة لحسمٍ قريب من وجهة نظري، ذلك أن سقف المطالب الأوكرانية، والغربية في واقع الأمر، ليس مقبولاً من موسكو.. وكل طرفٍ لديه تصور بإمكانية إحراز وضع أفضل من خلال العمل العسكري، وبحيث يُحسن موقفه التفاوضي عندما تسكت المدافع، ويجلس الأطراف إلى طاولة الحل السياسي.
وليس صعباً علينا تصور التبعات الرهيبة لتحول الأزمة الأوكرانية إلى أزمة ممتدة.. فالأطراف لا تتصارع عسكرياً في ساحة الحرب فحسب.. وإنما ميدان المعركة، في واقع الأمر، هو العالم باتساعه.. سواء عبر سلاح العقوبات الاقتصادية التي لا تدفع ثمنها روسيا وحدها، ولا حتى الأوروبيون (الذين تألموا بشدة من الآثار العكسية للعقوبات).. وإنما شعوب كثيرة عبر العالم عانت من آثار التضخم في أسعار الطاقة والغذاء جراء استمرار الأزمة.
ومع خطورة هذه الآثار على الاستقرار والسلم العالمي.. وعلى الأوضاع السياسية والاجتماعية داخل الدول، بخاصة النامية والفقيرة بينها.. فإن التهديد الأشد وطأة وخطراً من وجهة نظري يتمثل في عودة الحديث عن استخدام السلاح النووي.. بعد أن كان خطر استخدامه، أو حتى التلويح به، قد تراجع وتضاءل لأربعة عقود على الأقل.. وظني أن انخراط قوة نووية -هي روسيا- على نحو مباشر في نزاع عسكري بهذه الخطورة.. هو أمر يضع السلم العالمي على المحك أكثر من أي وقتٍ مضى… وللأسف فإن القوى المنخرطة في النزاع، وكما يبدو لي، لا تُقدر الخطورة الشديدة التي ينطوي عليها احتمال استخدام السلاح النووي من أي نوعٍ كان.. والذي يُمكن أن يأخذ العالم كله إلى مستوى آخر مروع من التدمير المتبادل.
إن كل يوم تستمر فيه الحرب الروسية الأوكرانية يعني تصاعداً للخطر، وتصلباً أكثر في المواقف، ورهاناً أعلى من كل طرف على استنزاف إمكانيات الطرف الآخر.. لإجباره على التراجع والتنازل… وأعتقد أننا سنُجبر، وللأسف الشديد، على التعايش مع هذه الحرب وتبعاتها وآثارها لفترة ليست قصيرة.
ثالثاً: الأزمة الجيوسياسية الأخطر في عصرنا:
الحقيقة أن الناظر لقدر الاضطراب الذي أثارته الحرب الروسية الأوكرانية في الشبكة العالمية باتساعها، لابد أن يتحسب بصورة أكبر من أزمة أشد تعقيداً وتركيباً تتمثل في المنافسة، التي دخلت مرحلة أقرب إلى الحرب الباردة، بين قطبي العالم اليوم: الولايات المتحدة والصين… أقول يتحسب بصورة أكبر، لأننا نتحدث هنا عن القوتين الاقتصاديتين الأهم والأكبر والأكثر تأثيراً في الاقتصاد العالمي.. والسنوات الأخيرة تمنحنا تصوراً مخففاً لما يمكن أن يُفضي إليه الصراع بين هاتين القوتين من اضطرابات ومخاطر لن ينجو منها أي مجتمع، ولن تكون أي دولة بعيدة عن آثارها.
إن الولايات المتحدة صارت تُجاهر باعتبار الصين خصماً، بل تسميها خصمها الأول في العالم.. وهي تصوغ استراتيجية الأمن القومي الخاصة بها على هذا الأساس بهدف احتواء وتحجيم النفوذ الصيني المتزايد خاصة في منطقة المحيطين؛ الهندي والهادي.
ولكننا أمام وضعٍ بالغ التعقيد.. ذلك أن الصين هي أيضاً الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة.. والصين لا ترغب، مثل روسيا، في مراجعة شاملة للنظام العالمي أو تقويضه، لأنها استفادت من هذا النظام في تحقيق نهضتها الاقتصادية الهائلة.. الصين تريد أن تلعب بقواعدها هي، وليس بقواعد يضعها الغرب أو الولايات المتحدة.. وهي تسعى لاقتطاع مناطق نفوذ لها.. خاصة في مجالها المباشر… وتوظف في ذلك أدوات اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية مختلفة.
إن هذا التوجه الصيني بتحويل القوة الاقتصادية إلى مكانة عالمية ونفوذ يتعدى حدودها وجوارها، والذي بدأ في الأساس مع تولي الرئيس “تشي جينبنج” السلطة في عام 2012، يضعها على خط مواجهة مع الولايات المتحدة… ويرى البعض أن هذه المواجهة بين القوتين العظميين حتمية، ولا مناص منها… خاصة وأن الولايات المتحدة لن تتخلى بسهولة عن موقع الصدارة، وستباشر بدورها إستراتيجية شاملة لإعاقة النمو الصيني، أو على الأقل إبطائه وتطويقه.
وفي الفترة الماضية … رأينا القوتين تنخرطان فيما يُشبه الحرب الباردة.. البعض يدعو هذه العلاقة المعقدة بـ “التعاون التنافسي” أو “التعايش التنافسي”.. ولكني أرصد مؤشرات مختلفة على تجاوزها مرحلة التنافس إلى الصراع البارد.. خاصة على الساحة الاقتصادية… ويظهر ذلك الصراع بصورة جلية في مجال التكنولوجية المتقدمة، وبخاصة قانون الرقائق الإلكترونية الذي تبناه الكونجرس والذي يحظر تصدير منتجات تكنولوجية بعينها للصين.. بل ويسعى إلى ضم أطراف أخرى إلى هذا الحظر لإحكام الحصار على الصين.
إن لدي اقتناعاً بأن التنافس، الذي دخل مرحلة الصراع، بين الولايات المتحدة والصين هو الأزمة الجيوسياسية الأخطر في العصر الحالي.. وأنه سيعيد تشكيل النظام العالمي على نحو عميق وجذري، وستمتد تبعاته وآثاره إلى كل ركن من أركان المعمورة.
رابعاً وأخيراً: هل فشل النظام العالمي؟
النظام العالمي يفشل عندما تختل قواعده الحاكمة، وتتعرض القوى المهيمنة عليه والضابطة لإيقاعه لنوع من الوهن أو الأفول، أو لتحدٍ مباشر من جانب قوى أخرى صاعدة ترغب في أن تحل محلها وتأخذ مكانها.. شهدنا هذا من قبل.. ومنذ الحروب النابليونية، مروراً بحربين عالميتين، وثالثة باردة.. هل نحن أمام لحظة مماثلة، وبحيث تكون الأوضاع التي وصفتها، من المنافسة والصراعات الجيوسياسية، مجرد مخاضٍ لنظام جديد يتشكل؟
إنه سؤال مطروح لم تُحسم إجابته بعد.. ولكني أكتفي هنا بالإشارة إلى أن التحدي اليوم أمام العالم أخطر بكثير من ذي قبل.. فالتهديدات التي تواجه الأسرة البشرية في مجموعها غير مسبوقة.. وهي تهديدات أخطر وأكثر اتساعاً وعمقاً.. ويستحيل مواجهتها في عالم منقسم إلى معسكرين أو إلى قوى متناحرة.. وفي مناخ جيوسياسي متوتر وحافل بالصراعات بين القوى الكبرى.
تحدي التغير المناخي، على سبيل المثال، يرتبط في الأساس بالتزامات متبادلة وأعباء تتحملها الدول جميعها لتخفيف آثار تغير المناخ، والحيلولة دون تفاقم ظاهرة ارتفاع درجة حرارة الكوكب.. وفي قمة “كوب 27” التي عُقدت بشرم الشيخ العام الماضي.. تم الاتفاق على إنشاء صندوق للخسائر والتعويضات للدول المتضررة من آثار التغيرات المناخية.. ولكن الأمر يحتاج إلى مفاوضات مُضنية من أجل تمويل الصندوق.. وليس صعباً علينا تصور مدى صعوبة هذه المفاوضات في عالمٍ حافل بالأزمات السياسية والانقسامات بين عواصم القرار الدولي.
وليس التغير المناخي هو التحدي الوحيد.. ثمة تشكيلة متنوعة من التحديات العالمية تتمثل في التغير التكنولوجي السريع وآثاره على المجتمعات، وتزايد التفاوت في الدخول بين الدول وداخلها وأثره على الاستقرار السياسي والاجتماعي، واحتمالات تفشي الأوبئة وما يرتبط بها من تهديدات للاقتصاد العالمي على غرار ما شهدنا في وقت جائحة كورونا.. والقائمة تطول.
إن فشل النظام العالمي في التعامل مع هذه الأزمات والصدمات، سيعد مؤشراً واضحاً على قرب تقويض هذا النظام وأفوله.. وهناك من يرى أن هذا التغير في النظام العالمي قد بدأ بالفعل… وأننا نشهد بزوغ عالم جديد متعدد الأقطاب، وإن كنا لا نعرف معالم هذا العالم بعد، ولا نعلم الكثير عن قواعده الحاكمة والهياكل التي ستنظمه.
غني عن البيان أن هذا الوضع يقتضي منّا النظر ملياً في موقع منطقتنا العربية من هذه التغيرات العميقة.. وكيفية استجابتها لها.
والحقيقة أن أوضاع المنطقة العربية تعكس بدورها حالة من الأزمات المستمرة أو الممتدة… فالأزمات في سوريا وليبيا واليمن مستمرة منذ أكثر من عقد، مع كلفة بشرية واقتصادية واجتماعية هائلة على المجتمعات والدول… وللأسف فإن هذه الأزمات جذبت أطرافاً دولية وإقليمية تُسهم في استمرارها عبر مد الأطراف المتصارعة بالمال والسلاح والدعم السياسي.
واقتناعي أن استمرار هذه الأزمات يُشكل نقطة ضعف خطيرة في منظومة الأمن القومي العربي.. ليس فقط بالنسبة للدول التي تُعاني منها، وإنما للدول العربية جميعاً.. فالقوى الإقليمية تُمارس تدخلاتها غير الحميدة في منطقتنا عبر هذه الثغرات والجراح النازفة في الجسد العربي… وهي تجد لنفسها مواطئ أقدام، ومناطق نفوذ في أجواء الفوضى والاضطراب الأهلي.. بل إن بعض هذه القوى لا يتورع عن إذكاء نيران الفوضى وتأجيج الصراعات الطائفية تعزيزاً لمصالحه الخاصة، ودعماً لنفوذه الإقليمي كما يتصوره.
وبطبيعة الحال، فإن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يُمثل الأزمة الأطول والأخطر في تبعاتها وآثارها المحتملة على المنطقة، وما وراءها … وقد دخل هذا الصراع مرحلة جديدة من وجهة نظري خلال الشهور الماضية.. فالسنة المنصرمة هي الأكثر دموية منذ عقدين في الأراضي المحتلة.. ومنذ بداية هذا العام سقط عشرات الشهداء الفلسطينيين برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي الذي يُمارس حملة قمع وحشية بإيعاز من حكومة هي الأشد تطرفاً في تاريخ إسرائيل بشهادة الجميع… حكومة برنامجها المعلن هو توسيع الاستيطان والاستيلاء على الأرض وحصار الوجود الفلسطيني في القدس وغيرها من مدن الضفة.
وأمام هذه الأوضاع التي تنذر بما هو أسوأ وأخطر.. سواء على صعيد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، أو الأزمات الممتدة الأخرى… فإن الحاجة تشتد إلى استراتيجية شاملة للأمن القومي العربي لمواجهة هذه التحديات الإقليمية، وكذا الوضع العالمي المتغير بكل مخاطره على نحو ما ذكرنا… وأظن أن نقطة الارتكاز في هذه الاستراتيجية تتمثل في تعزيز الدولة الوطنية العربية.. وبخاصة تلك الدول التي تواجه الأزمات وتحتاج -قبل أي شيء- إلى ظهير عربي مُساند لاستعادة الاستقرار والاسهام في إحلال التسويات السياسية المطلوبة، ودرء مخاطر التدخلات الإقليمية والخارجية المُدمرة.
بل إن السعي إلى تعزيز الدولة الوطنية العربية يتجاوز دعم دول الأزمات، إلى ضرورة العمل المشترك من أجل التصدي لتهديدات ضاغطة تُواجه الكثير من الدول العربية … مثل تحدي الأمن الغذائي الذي يظل واحداً من أخطر التهديدات للاستقرار الاجتماعي في الفترة القادمة.. وقد انتبهت الدول العربية، والجامعة العربية، لهذا الأمر وخطورته وتبنت خلال قمة الجزائر الأخيرة استراتيجية لتحقيق الأمن الغذائي العربي.
وأشير في هذا السياق إلى نقطة أراها جوهرية من وجهة نظري، وسوف أختم بها حديثي لأفسح المجال أمام المناقشات والأسئلة..
إن الوضع العالمي مليء بالمخاطر بقدر ما يوفر الفرص أيضاً.. فالعالم متعدد الأقطاب يطرح مساحات لتحقيق ما يُسمى بـ “الاستقلالية الاستراتيجية”… ويعني ذلك توسيع دائرة الخيارات والحركة أمام الدول والنظم الإقليمية المختلفة… غير أن التعامل في بيئة متعددة الأقطاب وبهدف تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الاستراتيجية يقتضي في الأساس قراءة سليمة لاتجاهات التغير في التوازنات الدولية، كما يتطلب أيضاً توازناً دقيقاً في إدارة العلاقات، إذ أن له مخاطره المفهومة.
وأظن أن المنطقة العربية ليست بعيدة عن هذا التصور في التعامل مع التغيرات العالمية عبر توسيع مجالات الحركة للاستفادة من الفرص المتاحة، ومن دون أن تتورط في الانجرار إلى فخ الاستقطاب العالمي… مثلها في ذلك مثل الكثير من دول الجنوب التي عبرت عن مواقف واضحة ترفض منطق الاستقطاب خلال الأزمة الأوكرانية.. وربما كانت القمة العربية الصينية، وهي حدثٌ كبير وغير مسبوق عُقد للمرة الأولى في الرياض في ديسمبر الماضي، مؤشراً على هذا النوع من التفكير الاستراتيجي غير التقليدي.
أقول ختاماً.. إن أوضاع الأزمات تفرض على الدول وقادتها التفكير السريع والحركة السريعة والاستجابة اللحظية.. غير أنها تقتضي أيضاً الحكمة والقراءة المُدققة لاتجاهات الأحداث.. وقبل ذلك كله، تعزيز العمل المشترك وتنسيق الرؤى مع الأصدقاء والحلفاء.. ولا أتصور أن الدول العربية يمكنها مواجهة تلك الأوضاع الحافلة بالمتغيرات السريعة والمُستجدات الطارئة، سوى برؤية موحدة وإرادة مشتركة وعمل جماعي متضافر.
شكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.