الكاتب والباحث السياسي – أحمد شيخو
هل لدى الدول والشعوب في الشرق الأوسط والمنطقة قوانين ودساتير مناسبة تعكس مصالح وأولويات مجتمعاتها؟ من يضع هذه القوانين والدساتير ولمصلحة من توضع وكيف ؟ هل الدساتير الموجودة هي تعبير عن تجسيد للعلاقة المتوازنة بين المجتمع من جهة والسلطة أو الإدارة الديمقراطية من الجهة الأخرى؟ هل يمكننا القول أن للمجتمعات والشعوب دساتيرها وللسلطات الدولتية القومية دساتيرها بشكلاً أخر ومختلف و كيف يمكن التوافق بينهم؟ كيف تسمح القوانين والدساتير في دول المنطقة بالإبادات الجماعية والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي لسكان والشعوب في هذه الدول؟
ما هو الدستور الديمقراطي الذي ينظم العلاقة بين المجتمع والدولة ويرتب لحقوق وواجبات الفرد والمجتمع ؟ وما هو المقصد من الحل السلمي والديمقراطي للقضية الوطنية الكردية؟
إن التسلط والنهب والهيمنة الذي بدأ مع الزقورات و دول المدن في الحضارة السومرية( التي نتجت نتيجة تلاقي الثقافتين السامية والأرية ) وثم أنتشر في بقاع العالم، لم يكن يحدث من دون اخضاع الفرد والمجتمع ذهنياً وفكرياً وبالتالي سلوكياً وإجرائياً ومعه عقائدياً وقانونياً بالربط التام.
وظلت العلاقة الجدلية بين المجتمع والسلطة أو الإدارة بشكل عام في تفاعل مستمر وبصيغ مختلفة نظراً لسعي المجتمعات في الحفاظ على مساحة حريتها وتعبيرها وعملها وانتاجها مقابل عمل السلطات والإدارات المركزية على الدخول في كل تفاصيل حياة المجتمع لتوجيهه والتحكم به لقبوله بالإخضاع وإعطاء القيمة الزائدة من عمل الأفراد والمجتمعات إلى الهياكل التي بدأت تفرض نفسها وتشرعن ذلك عبر السياقات الفكرية والروحية التي أصبحت تبدع فيها وترى قوتها في التأثير على المجتمعات والشعوب والأفراد عبرها. ومع التطور في بنى وهياكل الدول والسلطات مادياً وفكرياً زاد التنافس والصراع بين القوة المجتمعية الشعبية الديمقراطية من جهة وبين قوى السلطة والدولتية من الجهة الأخرى إلى أن وصلنا لأسوء صيغ الدول والإدرات وهي الدول القومية التي تمثل اغتصاب وتجاوز على كل القيم الثقافية والأخلاقية لمجتمعات وشعوب الشرق الأوسط والمنطقة والعالم. لكون الدولة القومية الأحادية والأقصائية تمثل أحد أدوات النهب والهيمنة الدولية للنظام العالمي، التي تتجاوز البعد المحلي والإقليمي ولكون الدولة القومية أهم أداة في النهب والهيمنة وكذلك لأن الدولة القومية تبرر وتشرعن نفسها عبر القوانين والدساتير التي تتشدق بأنها لمصلحة الدول و الشعوب وأمنهم القومي الدولتي السلطوي.وفي هذا تعمق الجدلية وبشكل مستمر بين القانون والدساتير الدولتية من طرف والأخلاق والسياسة المجتمعية من طرف أخر.
ويمكن القول إن الدولة القومية الحاكمة من أكثر أشكال الدولة التي تصوغ الإجراءات القانونية على مر التاريخ ولا تلتزم بها إلا بمقدار ما تخدم مصالحها فقط دون الأخرين. وهذا يرجع وإلى سعيها للقضاء على الدفاع المجتمعي والعائق أمامها وهو المجتمع بماهيته الديمقراطية وببعديها الأخلاقي والسياسي وبأليات دفاعه الذاتي . حيث كانت المجتمعات وعبر مراحل حياتها تعمل على حل نسبة كبرى من قضاياها بالإجراءات والتدابير المجتمعية الأخلاقية والسياسية والحصول على نتائج أفضل من الاعتماد فقط على شكلية وصورية القوانين. بينما عمل مسار الحضارة المركزية من أيام السومرين وصولاً لنظام الهيمنة الحالي(الحداثة الرأسمالية) وبالتضاد مع الحضارة الديمقراطية المرافقة لإسناد مشروعيتها التامة على الخلفية القانونية دون الإعتبارية لمصالح الشعوب والمجتمعات. ذلك إن مغالاتها في التدخل بشؤون المجتمع واستغلالها إياه، قد أفضى إلى لجوئها للأداة المعقدة المسماة بالقانون، والتي تصيّر العدالة شكلية. فالقانون هو فن الإدارة بعدد كبير من القواعد الحقوقية المرتكزة إلى مفهوم العدالة الصورية في شرعنة أشكال الظلم التعسفي الذي أفرزته الدول القومية وراعيتها العالمية النظام العالمي الرأسمالي منذ القرنين الأخيرين؛ وليس كما يقال في كثير من الأحيان عن التكامل القانوني الذي يرتب حقوق وواجبات الفرد والمجتمع . كما إن الحكم بالقوانين بدلاً من الطبيعية الاجتماعية و القواعد الأخلاقية والسياسية هو أمر خاص على الأغلب بحداثة النظام العالمي الرأسمالية. ذلك إن السلطوية الدولتية الناكرة للأخلاق والسياسة والديمقراطية تلجأ إلى سيادة القانون لتحصين نفسها بالقوة القصوى. أي إن القانون سلاح فتاك بيد البورجوازية الدولتية والسلطات. إذ تدافع به عن نفسها في وجه المجتمعات والشعوب والكادحين وطالبي الحرية والعدالة وأنظمتهم المجتمعية الديمقراطية الأخلاقية والسياسية . كما تستقي الدولة القومية قوتها من سيادة القانون المعد من جانب واحد. أي إن القانون بمثابة آيات قرآنية لإله الدولة القومية، التي تفضل التحكم بالمجتمع عن طريق تلك الآيات التي على الجميع تطبيقها فقط.
ولو رصدنا دول المنطقة وقوانينها ودساتيرها وكيفية صياغة هذه القوانين والدساتير، فسنلاحظ وبسهولة أن الإجراءات والممارسات من قبل السلطات ليس لها علاقة بالنصوص القانونية والدستورية، بل أن السلطات التنفيذية أصبحت هي من تأمر السلطات القضائية والتشريعية وحتى المحاكم الدستورية وفي أغلب الأحيان تقوم السلطات والحكومات بإيجاد امتدادات وتوابع لها في السلك القضائي والتشريعي وهذه ميزة لدول المنطقة وعلى رأسها تركيا، بأن الرئيس والسلطات يسنون القوانين والدستور على مقاسهم ومقاس سلطاتهم ومصالحهم ونفوذهم ووجودهم واستمرارهم في الحكم، فأردوغان وعبر البرلمان التمثيلي الفارغ من المضمون والجوهر الديمقراطي ، سن وشرعن كل هجماته وإجراءاتها وجرائهم بحق الشعب الكردي وشعوب المنطقة وكما أنه له القدرة والاستطاعة وبأيام معدودة وأحياناً خلال ساعات في أن يجعل البرلمان والسلطة القضائية والقانونية بإصدار أي قرار يريده و يلزم لحكومته وسلطته وسياساتهم. فحسب الدولة التركية ودستورها وقوانيها المفصلة أردوغانياً كل الجرائم وحملات الإبادة والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي بحق الكرد في تركيا وسوريا والعراق قانوني ودستوري وفق المذكرات والقوانين الذي يصدره البرلمان والسلطات القضائية والقانونية التركية. ولعل قانون الانتخابات الجديد وعزل رؤوساء البلديات المنتخبين ووضع أي سياسي أو برلماني أو نشاط كردي أو ديمقراطي أو معارض تركي في السجن وعدم الإفراج عن السجناء السياسين الكرد الذي خلصوا فترة الحكم المؤبد حوالي 30 سنة وجعل السجون مقابر وفرض العزلة والتجريد ولأسباب واهية وغير صحيحة على القائد عبدالله أوجلان المسجون منذ 24 سنة علاوة على الهجمات الأخيرة على مناطق زاب وآفاشين واستعمال الكيميائي بغرض احتلال المنطقة وسرقت نفطها وغازها والتمدد في الدول العربية والسيطرة على بغداد ودمشق ، كلها تبين القانون التركي والدستور الأردوغاني ودولتهم القوموية التركية الطورانية الفاشية التي تريد إعادة إحياء العثمانية المتخلفة البائدة عبر مزيد من التدخلات في المنطقة ووفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة والقوانين والدستور التركية حسبما تقوله السلطة التركية وذلك تحت حجج واهية وغير مقبولة وليست صحيحة من ترهات وخزعبلات وأكاذيب الأمن القومي التركي وكأن لتركيا فقط أمن قومي وليس لشعوب ودول المنطقة من أمن قومي أو حاجة للاستقرار والسلام والأمن .
وهذا يتم مع تقوقع وسلبية بعض دول المنطقة التي أيضاً تتحجج بالقوانين والدساتير التي تسميها الوطنية أو القومية القطرية ، أي من يريد أن يظل ضمن حدود دويلته ويفتك بشعبه فقط ومن يريد التوسع واحتلال الأخر واخضاع الداخل والخارج، فكلهم يسنون قوانين ودساتير لأفعالهم وهنا وفي الشرق الأوسط الدساتير تفصل وترسم على مقاس الرؤساء والسلطات وكما هناك جانب يجب الإشارة إليه حيث أن معظم هذه الدساتير في الشرق الأوسط لم يضعها شعوبها والزمر الحاكمة بل هذه الدساتير والكثير من القوانين هي من صياغة وديباجة وجوهر ما تقدمه القوى المركزية في نظام الهيمنة العالمية للدول القومية ولسلطاتها وحكوماتها ليضمنوا مصالح النظام العالمي وليس مصالح مجتمعات وشعوب المنطقة. وأحيانا كثيرة تفرض الدساتير كما تريده القوى المركزية العالمية بعد سجالات وجدالات ونقاشات وجولات لا تغني ولا تفيد بشيء بين القوى التابعية المحلية، سوى إعطاء انطباع بأن الدستور منتوج محلي وأهلي وقومي وهو ليس له علاقة بالمحلي أو بشعوب هذه الدول القومية وحتى الكثير من رؤسائها وسلطاتها.
وفي جانب أخر قامت بعض الدول الأوربية ومعها أمريكا وغيرها ولمصالحهم الاقتصادية والتجارية ولاستعمال تركيا الدولة والسلطة كأداة وبيدق في استراتيجياتهم المتعلقة بالمنطقة بالتوافق مع تركيا وتبني رؤيتها الظالمة والنظر من عدستها للقضية و الشعب الكردي بوضع إرادة وحركة حرية الشعب الكردي في قائمة الإرهاب وإعطاء مسوغ وشرعية وقانون لتركيا بقتل كل كردي يرفض التخلي عن كردياتيته ويرفض الإبادة التركية ويطلب بحقوقه ولا يسلم إرادته وكرامته لتركيا، علاوة على مساعدة تركيا في خلق مرتزقة ومأجورين من بعض القوى الكردية والتي تساعد الاحتلال والإبادة التركية ضد الشعب الكردي كحزب الديمقراطي الكردستاني والبرزانيين الذين يقفون مع تركيا ويشاركونها ويعطون الشرعية لهجمات تركيا ولاحتلالاتها .
ويمكننا القول أن الحياة الفعلية والممارسات في وادي والنصوص القانونية والدساتير في وادي آخر في المنطقة ، حيث أن الكثير من الدساتير هي فقط كإطارات رسمية وطقوس شكلية تستعمل عند اللزوم من قبل الدولة والسلطة أما التطبيق والعمل والإجراءات شيء أخر وفق مايراه الحاكم والسلطة لمصلحتهم. وهذا يجعل هناك تحدي اخر وهو كيفية التوافق بين الحياة العملية والنظرية وكذلك بين شكل القانون وروحه، في ظل عدم وجود رؤية ووعي وفهم لدي الكثير للحقوق والواجبات وكذلك عدم وجود رغبة من قبل الجهات النافذة والحاكمة في التشارك مع الأخريين والشعب وعملها على الاستئثار بكل شيء وخوفها الدائم من الشعوب والمجتمعات لفسادها ونهبها وظلمها ونفاقها.
أما الجانب الأخر والمقابل للدولتية القومية أي لدى الإدارة الديمقراطية أو المجتمعية الحرة فيمكننا أن نتحدث عن القانون الديمقراطي وهو الذي يعتمد على التنوع واحترام الاختلاف كسنة وطبيعة للحياة والكون. والأهم أنه قلما يلجأ إلى الإجراءات القانونية الكثيرة. بل يتميز ببنية بسيطة غير معقدة.
ولهذا السبب، فإن مشروع الأمة الديمقراطية البديل للدولة القومية ولتقسيماتها ونهبها وتبعيتها للخارج ولغير مصالح شعوب ومجتمعات المنطقة، يقظة حيال القانون، وبالأخص حيال القانون الدستوري. فالأمة الديمقراطية هي أمة أخلاقية وسياسية وتركيب مجتمعي حر للذهنية والإرادة الحرة المشتركة أكثر منها أمة قانون.
وتظهر حاجتها إلى القانون عندما تعمل أساساً بموجب الوفاق والاتفاق مع الدول القومية والعيش معها تحت سقف سياسي مشترك. وحينها يكون للتمييز بين القوانين الوطنية وقوانين الإدارة الذاتية أهميةً ملحوظة. ذلك إن قانون الدولة القومية، التي تتخذ من المصالح البيروقراطية المركزية أحادية الجانب أساساً لها، يقبل ويتبنى قوانين الإدارة الذاتية بالضرورة، عندما يواجه مقاومات المجموعات والمجتمعات المحلية والثقافية الديمقراطية بنحو دائم. هذا وتعد النظم الفيدرالية ونظم القانون الفيدرالي ساريةً في الكثير من بلدان العالم لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بشكلاً مميز، وفي مقدمتها بلدان الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي والإمارات العربية والسودان والعديد من الدول في أفريقيا وآسيا التي تتميز بالتنوع والتعدد القومي والديني. أي إن الأنظمة التي توازن شؤون مصالح الشعوب والمجتمعات المحلية في وجه البيروقراطية المركزية والرأسمالية الاحتكارية، تتنامى بدرجة أكبر وتفيد الجانب الاقتصادي وتحقيق الاستقرار والأمن والسلام بشكل كبير.
لم تحصل كردستان والكرد على قانون خاص بهم، بسبب تعرضهم للإبادة وإنكار الوجود. بينما كانت لهم قوانينهم التقليدية والمكتوبة على حد سواء ضمن مختلف مراحل حياتهم وكياناتهم المحلية والإقليمية منذ القديم مع أسلاف الكرد( الكوتيين والهوريين وغيرهم) وحتى منتصف أو أواخر النظام العثماني. وبالرغم من الاعتراف رسمياً بكردستان والهوية الكردية، بل وبقانون الحكم الذاتي الكردي أثناء مرحلة التحرير الوطني أو ما تم تسميه بحرب الاستقلال في تركيا( 1919-1921)؛ إلا إنه تم التنكر لهويتهم، وعمل على مسحهم من صفحات التاريخ بعد عام 1925 عبر أساليب الصهر والتآمر والانقلابات وعبر سن دستور جديد وبرلمان جديد لتركيا غير البرلمان والدستور الذي خاض على اساسه الكرد والترك حرب الاستقلال وكان هناك قانون إصلاح الشرق وإسكان الشرق وهي قوانين للتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي بحق الكرد وخاصة في المناطق الواقعة غرب نهر الفرات في تركيا وكذلك في شرقه.
ورغم إثبات مقاومة الكرد بريادة حزب العمال الكردستاني PKK للوجود الكردي في الخمسين السنة الأخيرة، إلا إنها لم تتمكنْ بعد من انتزاع اعتراف رسمي وقانوني به. وعليه، فإن الشعب الكردي و منظومة المجتمع الكردستاني KCK يعملون أساساً على انتزاع اعتراف قانوني بالوجود الكردي من الدول القومية الأربعة(تركيا، إيران، سوريا والعراق). وإلا، فسيعمل وبصرار على صياغة قانونه الذاتي الخاص به بصورة أحادية الجانب دون انتظار أحد. كما أن منظومة المجتمع الكردستاني KCK يعطي الأولوية لتخصيص مكان للإدارات الذاتية ضمن الدساتير الوطنية. وتصب مساعيها بهذا الصدد في تضمين الإدارة الذاتية الديمقراطية الخاص بها بالدساتير الوطنية الديمقراطية في دول المنطقة.
إن الغاية من الحل السلمي والديمقراطي للقضية الكردية أصلاً هو الوفاق الدستوري الديمقراطي الوطني المرتكز إلى وضع الإدارة الذاتية الديمقراطية والقبول بها في الدستور . فما تحقق في العراق، وكذلك في سوريا فعلياً وما يحتد حوله النقاش في تركيا وإيران؛ إنما هو الحل في هذه الوجهة. وفي حال فشل الكرد ومنظومتهمKCK بشأن الحل الدستوري الديمقراطي الوطني، الذي يتسم بالإدارة الذاتية الديمقراطية المرتكز إلى الوفاق المتميز بالأولوية، فسينتقل إلى الطريق ذات المرتبة الثانية من الأهمية؛ ألا وهو الإدارة الديمقراطية الذاتية أحادية الجانب. هذا ولا تعد الإدارة الديمقراطية الذاتية في كردستان” كحكم القانون الساري في الدولة القومية. بل إنها إدارة العصرانية الديمقراطية أو المنظومة الديمقراطية المجتمعية وبناء هياكل الإدارة الذاتية في كردستان والشرق الأوسط وخارجها ذات الآفاق المحلية والإقليمية والعالمية لهدف بناء الكونفدرالية الديمقراطية للشرق الأوسط وأتحاد الأمم الديمقراطية العالمية بدل الحداثة الراسمالية العالمية المهيمنة وتواتبعها وأدواتها التقسيمية والنهبية والقمعية من الدويلات القومية وأجهزتها المختلفة.