ليلى موسى تكتب:
كثفت حكومة العدالة والتنمية من تصريحاتها ورغبتها مؤخراً في إعادة العلاقات مع محيطها، وبشكل خاص الإقليمي منها، إلى مجراها الطبيعي، كما كانت عليه قبل 2011، والتي تميزت بعلاقات متميزة مع غالبية الدول من البوابة الاقتصادية والتغلغل في نسيج المجتمعات العربية والأفريقية عبر قواها الناعمة، مما مهد لها الأرضية بالتدخل بشكل مباشر أو عبر وكلائها في الشؤون الداخلية لغالبية تلك الدول عقب اندلاع ثورات ربيع الشعوب.
ذلك التدخل السافر سرعان ما كشف الغطاء عن نوايا تركيا الاحتلالية التوسعية تحت العباءة الدينية ومسائل حقوق الإنسان، وإدراك الغالبية لخطورة ذلك التدخل على أمنهم القومي على المدى البعيد باستثناء بعض الجهات والفئات المتواطئة معها على أسس ومصالح شخصية ضيقة ووقتية مرحلية على حساب المصالح الوطنية.
الأمر الذي دفع بالعديد من تلك الدول وشعوبها إلى اتخاذ القرار بالمقاطعة في مسعى منهم لوضع حد لسياسات العدالة والتنمية المتجاوزة لجميع الأعراف والمواثيق الدولية وعلاقات حسن الجوار واحترام إرادة الشعوب في تقرير مصيرها وإدارتها لزمام أمورها.
المقاطعة كلفت العدالة والتنمية الكثير، ربما فاق تصوراتها وتقديراتها، فتلك المقاطعة كانت بمثابة الدبوس الذي يفجر البالون ويعيده إلى حجمه الطبيعي، فبالرغم من اللغة الاستعلائية لحكومة العدالة والتنمية وتهديداتها العلنية وعنجهيتها ضاربة بجميع الأعراف والمواثيق عرض الحائط نجدها اليوم تغير من تكتيكاتها لتمرير استراتيجياتها وفق سياستها البرغماتية عبر اتباع أساليب دبلوماسية لكسر حالة العزلة وإنهاء مرحلة صفر الأصدقاء واستعادة مرحلتها الذهبية صفر المشاكل، إجراءات ومساع تندرج في سياق كسب المزيد من الوقت لاستعادة عافيتها في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي تعاني منها، ومعارضة داخلية في تزايد مستمر وقلة فرص حظوظ النجاح في الانتخابات المقبلة.
ما دفع تركيا إلى الإقدام على هكذا خطوة لم يأت من فراغ، بل على العكس ربما تسهم وتمهد عملية التطبيع تلك في زيادة تدخلاتها في الشؤون الداخلية وتأمين استمرارية أمن تواجدها في مناطق الصراع ومنها تكون بداية جديدة للانطلاق إلى الدول والمناطق التي خسرتها عبر تراجع وانحسار وكلائها فيها، وتكون خطوة على درب تحقيق استراتيجياتها التي لم تتحقق بشكلها الكامل وخاصة مع وجود بؤر لتوتر وفوضى خلاقة مستشرية في المنطقة تحقق ما تصبو إليه.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما مدى جدية العدالة والتنمية في نواياها حيال عمليات التطبيع؟
بالرغم من خطو بعض الخطوات في مسار إعادة التطبيع والاتفاق على البعض من المبادرات كمبادرات حسن النية مثل إيقاف بعض القنوات الإعلامية للإخوان في تركيا وتسليم ملف خاشقجي للحكومة السعودية وغيرها من الإجراءات، ولكنها في حقيقة الأمر ظلت تلك الإجراءات محصورة بالقشور دون ملامسة الخلافات الجوهرية.
ففي ليبيا على سبيل المثال بالرغم من وجود إجماع للمجتمع الدولي ومباركة عربية للمضي قدماً نحو عملية انتقال سياسي وحلحلة الأزمة الليبية نجد عبد الحميد الدبيبة رئيس الوزراء الليبي يرفض الانصياع للقرار الدولي ويعرقل جميع المساعي للمضي قدماً في إكمال مهامه.
كما أن العدالة والتنمية لم تخفِ استنكارها ورفضها وبل العودة إلى لهجتها الهجومية والتهديدية بشأن إجراءات الرئيس التونسي قيس سعيد بحل البرلمان وتحجيم دور الإخوان والحد من سلطتهم.
كما أننا وجدنا بعد الانفتاح الإماراتي التركي ووجود تقارير تفيد بمساع إماراتية وروسية لإعادة تطبيع العلاقات بين الأتراك وسلطة دمشق، وبالتزامن مع تلك التصريحات أعقبتها عملية اصلاح داخل الائتلاف وفق رؤية قادتها، ولكن ربما تأتي في مسار كخطوة تمهيدية للتطبيع مع سلطة دمشق والدول العربية باستبعاد قيادات إخوانية عن الواجهة على الأقل، كما أن زيادة نسبة أعضاء الكرد من المجلس الوطني الكردي والتركمان يطرح الكثير من إشارات الاستفهام.
وخاصة لم تمض أيام من تلك الإجراءات حتى أعلنت تركيا إطلاق عمليتها العسكرية تحت مسمى مخلب القفل في شمال العراق والإدارة الذاتية في شنكال تحت حجج وذرائع واهية هادفة إلى تحقيق حلمها العثماني عبر إبادة الشعب الكردي، إلى جانب تكثيف قصفها لمناطق شمال وشرق سوريا وممارسة إبادة حقيقية بحق الشعب السوري عبر هندسة لعمليات تغيير ديمغرافي وتطهير عرقي وطمس هوية المنطقة عبر عمليات تتريك ممنهجة للمنطقة تحت العبادة الدينية.
ربما الدور الوظيفي الموكل لتركيا في المنطقة يمنحها العديد من الفرص والإمكانيات لتمرير مشاريعها وأجنداتها مقابل خدمات تقدمها لقوى الهيمنة العالمية، لذا نجد هناك صمتا دوليا مطبقا حيال ما تقوم بها دولة الاحتلال التركي من انتهاكات وممارسات منافية للمواثيق والأعراف الدولية والإنسانية في كل من سوريا والعراق ودعمها اللامحدود للإرهاب والتطرف والإسلاموية في العديد من الدول العربية والأفريقية الأخرى.
فتركيا ماضية في سياساتها العدائية والإنكارية بحق شعوب المنطقة والإنسانية، ولن يثنيها عن ذلك شيء بالكف عن تدخلاتها، فبالرغم من الموقف العراقي الخجول باستدعاء السفير التركي وتسليمه مذكرة احتجاج، وتنديد الجامعة العربية بالتدخل التركي والذي جاء على لسان أمينها السيد أحمد أبو الغيط “مؤكداً أن الهجمات تُمثل اعتداءات مرفوضة ومستنكرة على سيادة العراق، وخرقاً للقانون الدولي”.. لكنها لن تشكل ردعاً لسلوكيات العدالة والتنمية وتمنعها من المضي قدماً في استراتيجياتها القائمة على عثمنة المنطقة، ما لم تتحول إلى إجراءات صارمة تلزم العدالة والتنمية بها.
سبق وكانت هناك مواقف مماثلة أثناء الغزو التركي على الشمال السوري، ولكنها لم تمنع تركيا من التراجع على العكس من ذلك، اليوم تركيا منذ 2016 من احتلالها إعزاز وجرابلس وباب وعام 2018 لعفرين وعام 2019 لرأس العين وتل أبيض وما تقوم به من ممارسات وسياسات تعيد إلى الأذهان سيناريو قبرص ولواء إسكندرونة.
تركيا ستكثف من هجماتها على شمال العراق وبالرغم من إدراكها فشل العملية على غرار سابقاتها، لكن يجب ألا ننسى ما تسببه هكذا عمليات من تداعيات كارثية على الطبيعة وتهجير سكانها وتفريغ القرى وتراجع التنمية الاقتصادية للمنطقة واستنزاف مقدراتها، إلا أنها لكونها تمر بمرحلة حرجة وللتغطية على الداخل التركية وتسكيت الشعب بحجة حماية أمنها القومية.
فحماية الأمن القومي التركي تبدأ من الداخل التركي عبر حل القضية الكردية بالحوار والسبل الدبلوماسية والسياسية وليس بالصراع ونقلها إلى دول الجوار وتهديد أمنهم وسلمهم.
فتركيا من جانب تدعو إلى التطبيع ومن جهة أخرى تنتهك سيادة الدول الأخرى، والخطر لن يقتصر على دول دون سواها وأطماعها غير محدودة، وهذا ما يتطلب من الحكومات والشعوب التكاتف واليقظة ووضع حد لتدخلات العدالة والتنمية التي لن تجلب للمنطقة سوى المزيد من الفقر والفوضى والإرهاب والتطرف.