الكاتب والباحث السياسي الكردي- المهندس أحمد شيخو
تواجد الشعب الكردي كأحد أقدم شعوب المنطقة منذ حوالي 12 ألف سنة في سلسلة جبال طوروس وزاغروس الممتدة من الخليج العربي وبشكل قوس ماراً بأزربيجان وأرمينيا حتى لواء إسكندرون والبحر الأبيض المتوسط أي من مدن بوير أحمد وكرمنشان وشيراز حتى عفرين وأضنة وأنطاكيا وتركز وجوده في هذه المنطقة التي تم تسميتها تاريخياً بالهلال الخصيب أو بميزوبوتاميا ، حيث تفاعل أسلاف الكرد الهوريين والكوتين وغيرهم التي كانوا في شمال المدنية السومرية مع المحيط، وكان تلاقي ثقافة آل العبيد الهرمية وثقافة المدنية السومرية مع ثقافة جغرافية الكرد(كردستان) أي الآرية والنيولتيتية حلقة الحضارة الإنسانية( حوالي 6000_5500)ق.م، التي مهدت للحياة الحضارية البشرية حتى اليوم، وكانت مدينة حمص السورية منذ حوالي 1650 ق.م تشكل الحد الفاصل بين الأمبرطوريتين الفرعونية المصرية والأمبرطورية الميتانية الكردية التي كانت مركزها (واشو كاني) أو مدينة سري كانيه (رأس العين) السورية الحالية المحتلة من قبل تركيا واللتين تحالفاتا في أول اتفاقية دبلوماسية في التاريخ اتفاقية قادش سنة 1258ق.م .
وظهرت القضية الكردية وكذلك الإنسانية بعد تشكل الطبقية والمدنية والدولتية كتغيرات بنيوية في المجتمع البشري بداً من المدنية السومرية إلى اليوم رغم أن ذلك التحول في المجتمعات البشرية في بدايتها كانت تجسد حاجة ملحة لمعالجة القضايا التي ظهرت قبلها.
وتشكلت الهيمنة وأنظمتها من رحم الزقورات السومرية التي ولدت الدولة كشبكة نهب وهيمنة بأيد الكهنة ومازالت إلى اليوم منتوج كهني وإن تبدلت التسميات والميتولوجيات والأديان والعلوم والفلسفات المرافقة والمشرعنة لها ، ومن صارغون والأكاديين وحتى النظام الأحادي القطب الأمريكي الهيمنة هي نفسها وإن بدلت جغرافيتها في القرن الثاني والثالث عشر من الشرق الأوسط إلى أوربا الغربية إلى أمريكا بعد الحرب العالمية الأولى والثانية نتيجة تواجد وعي الحقيقة بشكل أكبر في الجغرافيات الجديدة. وفي هذا المسار تكاثفت وتراكمت وتركزت الألوهية و الهيمنة والسيطرة والتحكم والسلطوية وأدواتها وأجهزتها حتى تدخلت في كل الأوعية الشعرية للمجتمعات والشعوب وكذلك في الطبيعة والمرأة وجعلتها تعاني أشد الأزمات والمشاكل والأمراض والتصحر و التلوث وخطر الإنقراض لكثير من المكونات الحية.
قاد أسلاف الكرد ومنهم سلالة خودا أول مقاومة تاريخية باسم شعوب المنطقة، وأنهوا أول إمبرطور وديكتاتور في التاريخ وهو سارغون وسحقوا عاصمته أكاد بالأرض قادمين من جبال زاغروس وبالتعاون مع شعوب بابل والمنطقة حينها وكذلك في عام 612ق. م قاد الكرد الميدين شعوب المنطقة وانهوا أكثر إمبراطورية ظلماً وجوراً في التاريخ وهي الأمبراطورية الأشورية وبذلك أنقذوا شعوب المنطقة الممتدة من الهند إلى شمالي أفريقيا وشكلوا الكونفدرالية الميدية التي كانت نموذجاً للحياة المشتركة إلا أن تحالف الفرس واليهود عليها، وربما ما فعله و يفعله الكرد الحاملين لفكر و فلسفة ورؤية المفكر والقائد عبدالله أوجلان من أخوة الشعوب والعيش المشترك والوحدة الديمقراطية اليوم وبالتعاون مع شعوب المنطقة وخاصة العلاقة الكردية-العربية الاستراتيجية في شمال وشرق سوريا التي هزمت داعش وأنقذت المنطقة والعالم هي استمرار وصدى للمسار التاريخي من الأخوة والتشارك والديمقراطية التي كانت سنة الحياة في المنطقة بين المجتمعات والشعوب.
ولقد كانت جغرافية الكرد الجبلية وتوفر إمكانيات الحياة الغنية فيها سبباً لعدم بحث الكرد عن طرق وسبل الغزو والحرب والنهب وإقامة الدول والسلطات والأمبرطوريات وإنما كانوا في كل مرة يزداد خطر المدنيات عليهم وعلى شعوب المنطقة، ينزلون ويقولون كلمتهم ويقضون عليها وثم يفضلون العيش في طبيعتهم الجبلية وليس الاستيلاء والتحكم على مواقع أو جغرافيات جديدة ولعل الملاحم التاريخية كجلجامش و رستم زال وغيرها تذكر هذا في جنباته مع وجود الآلهات والآلهة الأم التي كانت تؤكد على دور المرأة في الحياة الكردية الجبلية والزراعية مثل الإلهة الأم ستار وغيرها كتعبير واضح عن ثقافة المساوة والحرية والأخلاق في معتقداتهم كما في الزردشتية وغيرها .
ومنذ أن تمكن أحد الفصائل التي كانت من أضعف وأفقر رعايا الكونفدرالية الميدية وهي مجموعة الفرس من السيطرة على الكونفدرالية الميدية عام 550 ق.م بمؤامرة كيروس ذات الأب الفارسي والأم الكردية وقتله مع الفرس والخائن هربكوس الأمبرطور الميدي الكردي أستياج وإلى اليوم دخل الشعب الكردي في حالة لا يحسد عليه من الدفاع المستمر عن وجوده وكرامته وحريته وأرضه وجباله وسهوله وحياته الحرة.
وفي الكونفدرالية الميدية و الأمبراطورية البارسية وحتى الساسانية وقبلها كانت الزردشتية تعبر عن البعد الروحي والسماوي في المجتمع الكردي ومحيطها، وسيدنا إبراهيم الذي من الممكن أن يكون كردياً غادر من ظلم الوالي البابلي نمرود حوالي 1700 ق.م إلى أرض كنعان ومصر كمسار للتفاعل التاريخي والطبيعي منذ الأزل بين كردستان ومصر ماراً بالقدس أو الشام. ويمكن في أحد الجوانب وصف مساره بأنه تجسد العلاقة و التفاعل لجغرفية كردستان مع بلاد كنعان وحوض مصر و شبه الجزيرة العربية كونه قدم من رها ( أورفا) الكردية وحاملاً ثقافتها وحياتها والتي تقع حالياً على الحدود التركية السورية الحالية.
قدم الإسكندر330ق.م وعمل على تركيب حضارة ثقافية هلينية بين الشرق والغرب واستمر بعده قادة جنده وتلقوا العديد من الهزائم على يد الكرد وطبيعة مناطقهم يذكرها قذانوف وهيردوت في كتبهم ودرات رحى حروب طويلة بين البرس وإسكندر إلا أن كان الرومان والبيزنطة أسياد المنطقة و لقد قدم الإسلام زمن الخليفة عمر بن الخطاب سنة 641_642 م عبر جنوب العراق الحالي وعبر نصيبين على الحدود التركية السورية الحالية إلى الشعب الكردي. وتشاركت الشعوب العيش في الحضارة الإسلامية حتى نهاية الإمبرطورية العثمانية. وهنا أصبح للعلاقة الكردية-العربية وكذلك وحدة الشعوب الإسلامية من بديهيات الحياة والإرادة المشتركة و المصير المشترك، وسجل الكرد محطات مهمة في وحدة الأمة الإسلامية وتجميع إرادة المنطقة وبذلك مواجهة التحديات والتغلب عليها كما فعله الناصر صلاح الدين الأيوبي وغيره الكثير.
ومن الجيد الإشارة إلى أن الكرد ورغم عيشهم في ظل دول وإمبراطوريات ليست كردية السلطة و لكنهم وأرضهم التاريخية وحياتهم الخاصة لم تفقد خصوصيتها بل كانت تعيش وفق مزاياها و ثقافتها ولغتها وكيانها الإداري و العشائري الخاص والأقرب إلى مفهوم الإدارات الذاتية ضمن الدول والأمبرطوريات الكبيرة، وضمن الحضارة الإسلامية كان للكرد أكثر من 50 دويلة أو إمارة ضمن الدولة او الخلافات الإسلامية من العصر العباسي وحتى منتصف العصر العثماني وتحديداً حوالي 1830م ومنها إمارات بوطان، روندوز، صوران ، أردلان، هكاري، الدولة المروانية وغيرهم ماعدا الدولة الأيوبية وحضور الكرد في الدول الإسلامية كمجموعات وأشخاص مؤثرين ومبدعين وفقهاء وعلماء وفنيين و قادة للجيش وولات وقضاة وغيرهم.
و بتدخل الألمان في الإمبراطورية العثمانية 1830 م وكذلك دخول بانيلون بونابرت إلى مصر 1800 م، بدأت المركزية الشيدة وبدأت معها عصر التدخل الخارجي في المنطقة وشعوبها. وهكذا في القرنين الأخيرين ومع توافد الهيمنة الفكرية الأوربية أو ما يسمى الاستشراق ومدارسها الفكرية ونظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ظهرت مالم يحسب لها الحساب وهو تقسيم المنطقة وتفتيت شعوبها وفرض الهيمنة عليها ونهب خيراتها عبر عدة أدواة على راسهم الأداة المسمى بالدولة القومية التي أوجدتها الإمبرطورية الإنكليزية بالتعاون مع اليهود لإزالة العوائق أمام توسع بريطانيا وهيمنتها العالمية وانتقام اليهود من الإمبرطوريات الكاثوليكية والأرثوزوكسية والأسلامية والتمهيد لإقامة إسرائيل بعد أن تعرضوا للسبي والتفرقة والتشرد الذي فرضته الإمبرطورية الرومانية وقبلها السبي البابلي.
والشعب الكردي كمثل شعوب المنطقة كان يعيش ضمن الإمبرطورية العثمانية وتم فرض التقسيم عليه وعلى موطنه كردستان كما تم فرضه على العرب وبلدانهم وبقية الشعوب ولكن الشعب الكردي ضم وضعه في قفص الذيب حيث تم تقسيمه وأراضيه على أربعة دول.
ولقد خاض الكرد منذ عام 1925 نضالاً مستمراً إلى اليوم للدفاع عن وجودهم وبقائهم وحريتهم وكرامتهم كونهم في عام 1925 تعرضوا لمؤامرة دولية عبر حرمانهم من أية حقوق وتقسيمهم بين الدول الأربعة علاوة على إعطاء دور إبادة الكرد وإنهائهم وإلحاقهم بالأمم القومية السائدة الأربعة للدولة التركية ، التي اساساً قامت لتكون دولة للشعبين التركي والكردي لكن النفوذ اليهودي وبرجوازيتها القادرة مع المصالح الإنكليزية واليهودية حينها ومجموعة الاتحاد والترقي التي سيطرت على الحكم، تم بدء فصول الإبادة بحق الشعب الكردي بعد أن تم تطبيقه على الشعوب المسحية من الأرمن واليونان والروم والسريان وغيرهم، و تم إصدار قوانين إصلاح الشرق والإسكان والدستور الجديد عام 1925 الذي أنكر وجود الكرد والشعوب الأخرى واعتمد على مفهوم الدولة القومية ذات اللون والقومية والنشيد والدين والشعب الواحد الغريب والبعيد عن ثقافة المنطقة التعددية وعن تقاليدها الديمقراطية والتحالفات والحياة التشاركية التاريخية بين شعوب المنطقة. وهكذا عانت المنطقة من أزمة شديدة في ظل حالات الفرض والهيمنة والتقسيم والحرب التي تم فرضها وحملها ونفذها بعض الأدوات المحلية التابعية العميلة من القومويين والإسلامويين والجنسويين.
ومنذ عام 1925 وحتى 1940 خاض الكرد وخاصة في جنوب شرق تركيا أي القسم الأكبر من كردستان أكثر من 20 ثورة ضد الدولة التركية وممارساتها من الإبادة والقتل والتطهير العرقي والتغير الديموغرافي، وكادوا أن يشكلون العديد من الدول والكيانات لكن كان القرار الدولي سارياً بأن يتم إبادة الكرد وإستخدام الدولة الجديدة المسمى تركيا الحالية كمخفر متقدم ضد الاتحاد السوفيتي ولإضعاف المسلمين وتفرقتهم ومنع وحدتهم ، علماً أن لينين أو ما يسمى بقائد الثورة البلشفية كانت مساعداً لمصطفى كمال ولكثير من الحكومات التركية و من الممكن أن يكون مدها حتى بالأسلحة التي استعملت مع الاسلحة الألمانية في إبادة الكرد ومنع ثوراتها حتى الحرب العالمية الثانية ودخول تركيا في الناتو 1952. ولولا إنسحاب القوات الروسية القيصرية بعد الثورة البلشفية من جنوب القوقاز ومن مساحة كبيرة من أراضي كردستان في شرق تركيا وشمالي إيران لما استطاعت تركيا وإيران من ضم الكثير من المناطق الكردية في شرق تركيا وفي شمال غرب إيران لاحتلالهم.
وهكذا استمر القَسَم البريطاني والفرنسي والروسي السوفيتي في الحفاظ على تركيا والتغاطي عن ممارساتها وإبادتها بحق الشعوب و رغم ملايين الكرد الذين قتلتهم تركيا و الملايين التي هجرتهم إلا أنه وبوصولنا لعام 1972 وظهور القائد والمفكر عبدالله أوجلان الذي لخص معاناة الشعب الكردي بكلمتين” كردستان مستعمرة” مع أصدقائه الطلبة (من جامعات أنقرة حيث كان يدرس العلوم السياسية) قرب سد جوبوك في ذكرى العيد القومي الكردي التاريخي” عيد نوروز” أو يوم إسقاط كاوا الحداد قائد الكرد وبالتحالف مع شعوب المنطقة عاصمة الملك الظالم الأشوري ضحاك نينوى وإقامة الكونفدرالية الميدية وتحرير الشعوب من العبودية وإشعال نار الحرية.
وفي عام 1978 تشكل حزب العمال الكردستاني كأول حركة ثورية ومجتمعية كردية ديمقراطية جامعة لكل الكرد في العالم لوقف استمرار الإبادة والموت المحتم والتتريك بحق الأمة الكردية في ذكرى أول شهديها الأميي حقي قرار . وتم في عام 1984 وبعد انقلاب 1980 العسكري وممارساته الوحشية بحق الكرد ومناضليه وقادته إطلاق الكفاح المسلح لتحرير كردستان من الاحتلال التركي، وبعد عام في 1995 تدخل حلف الناتو إلى جانب تركيا في قتالها وإبادتها للشعب الكردي وفي عام 1986 أدخلت ألمانيا الحركة التحررية الكردية حزب العمال الكردستاني في قائمة الإرهاب لأنها لم تستطيع ترويض هذه الحركة وإدخالها إلى أجندات سياساتها وإبعادها عن المقاربة العملية والنضالية والديمقراطية لواقع الأمة الكردية المرسوم من قبل الهيمنة العالمية، كما فعلت مع أغلب التيارات السياسية في تركيا كونها كانت المكلفة بملف تركيا من حلف الناتو ومع أعوام 1997 وصولاً ل2002 قام الاتحاد الأوربي وكذلك أمريكا بوضع حركة حرية الكرد في قوائم الإرهاب ، كونهم كانوا لا يريدون أي تغير في واقع الشعب الكردي او حصوله على حريته أو حل القضية الكردية بالحلول الديمقراطية كون القائد أوجلان ومنذ 1993 كان يطرح الحلول السياسية وأعلن وقف إطلاق النار مرات عديدة لكن المنظومة الدولية لم تكن تريد أن تخطو أي خطوة نحو حل القضية الكردية كونهم هم الذين قسموا الكرد وجعلوه بدون حقوق وأي تغير أو أي حل للقضية الكردية سيضيعون بذلك ورقة وبؤرة توتر لصالحهم ولاستخدامها وقت اللزوم لضمان هيمنتهم واستمرارها على الدول الأربعة والمنطقة .
وفي عام 1998 بدأت عملية دولية من حلف الناتو وبقيادة أمريكا وإسرائيل وبمشاركة حوالي 40 دولة بملاحقة القائد أوجلان و ثم اعتقاله في 15 شباط في العاصمة الكينية نيروبي و تسليمه لتركيا ووضعه في جزيرة إمرالي ضمن سجن إنفرادي للموت عليه وعلى شعبه ولأي سعي ديمقراطي في المنطقة كحال برمتوس الذي يأكل من كبده الطير كل يوم. وكان يراد بذلك خلق حرب كردية-تركية تستمر لمئة سنة قادمة كما كانت في مئة السنة الأخيرة، لكن مقاربة القائد أوجلان كانت لإفشال هذه المؤامرة وطرح حل ديمقراطي للقضية الكردية لإنقاذ الشعبين الكردي والتركي وكذلك تقديم رؤية لحل قضايا المنطقة وفق الحلول الديمقراطية وذلك التخلص من سيناريو تكرار الثورات الكردية باعتقال واستهداف قادتهم .
للقائد والمفكر أوجلان مسيرة نضالية ورحلة تدريب و تضحية ومقاومة وبناء، تجاوزت الخمسين سنة ضمن حركة الحرية منذ أن بدأها بكلمتين ” كردستان مستعمر” مليئة بالفكر والعمل وبالتضحيات والشهداء تجاوزت 50 ألف شهيد في سبيل حرية وكرامة الشعب الكردي وتحرير أرضه من الاحتلال التركي، وقد قدم أوجلان ضمن مرافعاته كنتيجة لعمله ونضاله المستمر وكخلاصة لأفكاره خمس مجلدات باسم مانيفيستو الحضارة الديمقراطية (علماً أن له حوالي 300 مؤلف بين مجلدات وكتب بعضها من القاءات وحلقات التدريب الفكرية والسياسية التي أعطاها ) وفيها قدم مشروع العصرانية الديمقراطية كبديل لنظم الهيمنة على المنطقة والعالم أي بديل للحداثة الرأسمالية أو للنظام العالمي المهيمن وخياراته وهو بذلك تجاوز البعد الكردي أو العرقي أو القومي إلى البعد الإنساني والمجتمعي والتكاملي والثقافي لحل القضايا العالقة بالحلول الديمقراطية والتحول الديمقراطي في المنطقة والعالم وأصبح من أهم مفكري وفلاسفة المنطقة والعالم.
وهنا ولذكرى 24 سنة (التي تصادف 15 شباط\فبراير )على اعتقاله ووفاءً لنضاله وعبقريته وإنسانيته و توضيحاً لفلسفته ولإيصال أفكاره للمنطقة والشعوب العربية مع حالة العزلة الشديدة المفروضة عليه منذ 2011 لقمع صوته وأرائه عن شعوب المنطقة ، نحاول تقديم وجهة نظره ورؤيته من مجلداته في حل القضايا العربية وهيكلة إسرائيل وحل القضية الفلسطينية كونه يرى أننا لا نستطيع الوصول إلى الديمقراطية وحل القضية الكردية بدون أن تكون المنطقة أو الشرق الأوسط ديمقراطياً وبدون حل قضايا المنطقة العالقة والأساسية وأن دمقرطة المنطقة تعني حل القضية الكردية وكذلك مجمل قضايا المنطقة ومنها قضايا الشعب العربي .
يبين المفكر والقائد أوجلان في مرافعاته إن أحد أهم المصادر لأزمة الشرق الأوسط، هو تشييد الدول القومية العربية وإسرائيل بشكل متزامن، وعندما باشرت إنكلترا بالفعل العسكري على الإمبراطورية العثمانية بدءاً من مطلع القرن التاسع عشر. فإنها وكما استخدمت رجال الدين الأرثوذكسيين ذوي الأصول الإغريقية في البلقان، وساعدت تشييد الدولة القومية اليونانية؛ مسرّعةً بذلك من انهيار الإمبراطورية في بلاد البلقان. وكما بدأت بنفس النشاط في شبه الجزيرة العربية المتواجدة جنوب الإمبراطورية، والمتسمة بموقع استراتيجيّ على طريق الهند. فإنها باشرت بالوقت نفسه بدعم الدولتية القومية العربية، مستفيدةً من مساندة الشيوخ الذين يمثلون قمة الهرم لعلماء الدين المسلمين.
وكانت لها في نفس الوقت محاولات مثيلة مع زعماء الطرائق الدينية (وعلى رأسهم النقشبنديين والقادريين) المنحدرين من مدينة السليمانية عن طريق كردستان أيضاً. وأحكمت رقابتها طردياً على جنوب المملكة الإيرانية.
وهكذا، فإنّ المرحلة المبتدئة بالانتفاضات، قد استمرّت مع أنظمة الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى، لتنتهي إلى التشييد التامّ للدول القومية مع الحرب العالمية الثانية. وتمّت تصفية الإمبراطورية العثمانية في تلك الأثناء، ليتمّ تكوين فراغ شاسع في المنطقة حصيلة ذلك. وبعكس ما فعلت في بلاد الهند، لم تستقرّ إنكلترا في المنطقة كقوة استعمارية مباشرة. لكنها في الوقت عينه لم تترك أية قوة منافسة. فهدفت إلى تشييد الجمهورية التركية وهيكلتها بمعيّة أنظمة الانتداب العربية ضمن ذات الإطار (كان المحور الرئيسيّ للنقاشات الدائرة في مؤتمر سيواس متعلقاً بالانتداب الإنكليزيّ أو الأمريكيّ) وفي نفس التاريخ (1920).
لكنّ السلوك الراديكاليّ الذي اتّبعه مصطفى كمال، قد صبّ النتيجة النهائية في مجرى الجمهورية. لكن، لم يتغير أيّ شيء مضموناً. فالأنظمة العربية تحت الانتداب كانت قد تحولت بعد فترة قصيرة إلى دول قومية مشابهة. وإطلاق تسميات المملكة أو الجمهورية عليها لم يغيّر من جوهر الدولتية القومية الصغرى”.
ويشير القائد أوجلان إلى تصادف تسريع ولادة إسرائيل أيضاً في هذه المرحلة. حيث يشر إلى أنه علينا التبيان مرةً أخرى أنّ جذور إسرائيل ترتكز على تلك القبائل وأيديولوجيتها (الأيديولوجية اليهودية والأديان التوحيدية والقومويات). أي إنّ إسرائيل في جوهرها نتيجة طبيعية لحروب الدولة القومية، التي أينعت في أعوام 1550 في هيئة دولة حديثة على خطّ أمستردام–لندن، واستمرّت قرابة أربعة قرون، محوّلةً أوروبا إلى حمّامات دم. ولطالما لعبت الميول الفكرية اليهودية ورأس المال (الرأسمالية) اليهوديّ دوراً ريادياً في تشييد الدولة القومية. حيث كانت القناعة السائدة هي أنّ اليهود لن يتمكنوا من نيل حريتهم أو من تأسيس دولة إسرائيلية يهودية على خلفية المثل الصهيونية للقوموية اليهودية المتصاعدة مع الوقت؛ إلا بتمزيق أوصال الإمبراطوريات الكاثوليكية والأرثوذكسية والإسلامية. وقد أينعت هذه النشاطات العقائدية الواعية والمنظّمة عشية وأثناء وإبان الحرب العالمية الأولى. ففي الأوساط المتمخضة عن بناء الدولة القومية للجمهورية التركية الصغرى على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، إلى جانب بناء عدد جمّ من الدول القومية العربية الصغرى؛ قد أعلن عن الدولة القومية اليهودية إسرائيل رسمياً (1948)، والتي هدفت إليها الأيديولوجية الصهيونية المقدسة. وكانت الجمهورية التركية أول دولة قومية تعترف بها، وكأنها بذلك تؤكد جوهرها من حيث كونها إسرائيل بدئية.
ويوضح القائد أوجلان أن تشييد وإعلان إسرائيل ليس حدثاً اعتيادياً. فقد ولدت إسرائيل كقوة مهيمنة نواة لهيمنة الحداثة الرأسمالية، التي ملأت فراغ السلطة الناجم عن تحويل الإمبراطورية العثمانية والملكية الإيرانية إلى دول قومية صغرى تابعة، بعدما كانتا آخر قوتين مهيمنتين في المنطقة. وتشييد إسرائيل كقوة مهيمنة نواة أمر بالغ الأهمية. فهذا ما مفاده أنه سيتمّ الاعتراف بشرعية الدول القومية الأخرى في المنطقة في حال اعترفت هي بوجود إسرائيل كقوة مهيمنة. وأنه في حال عدم اعترافها بها، فسيجري تجييرها وإرهاقها بالحروب إلى أن تعترف بها. ونظراً لأنّ الجمهورية التركية ومصر والأردنّ وبعض دول الخليج كانت أول من اعترف بإسرائيل، فقد اعترف بها دولاً قوميةً شرعية، وأدرجت بالنظام القائم بناءً على ذلك. في حين لا تنفكّ الحرب دائرةً بين إسرائيل وحلفائها من جهة، والدول الأخرى المتبقية من الجهة الثانية. أما الحروب والاشتباكات مع العرب ضمن إطار القضية الفلسطينية، ومع البلدان الإسلامية الأخرى ضمن إطار إشكالية الخليج؛ فهي على علاقة كثيبة بالوجود المهيمن لإسرائيل داخل المنطقة. إذ سوف تظلّ هذه الاشتباكات والمؤامرات والاغتيالات والحروب متأججةً إلى حين الاعتراف بهيمنة وسيادة إسرائيل.
من هنا، يشير القائد اوجلان أننا لن نستطيع فهم أسباب إنشاء اثنتين وعشرين دولةً قوميةً عربيةً بمنوال صحيح، ما لم نفهم الهيكلة السياديّة للحداثة الرأسمالية داخل الشرق الأوسط بعين صائبة. بمعنى آخر، محال تحليل الحداثة الرأسمالية، التي تمّ تأسيسها في الشرق الأوسط، بعين سليمة من منظور الشروح التاريخية، اليمينية منها واليسارية، أو الدينية والمذهبية، أو الأثنية والقوموية للنزعة الاستقلالية لدى البورجوازية الصغيرة ذات الطابع الدولتيّ القوميّ. وتأسيساً على ذلك، فإنّ إدراك القضية العربية كما هي في الواقع القائم (مثلما الحال بشأن الإدراك السليم لقضايا الجمهورية التركية والجمهوريات والجماعات التركياتية الأخرى)، يتطلب أولاً الفهم الصحيح لموضوع بناء وتأسيس هيمنة الحداثة الرأسمالية في الشرق الأوسط. حيث لا يمكن فهم قضية أية دولة أو مجتمع بناءً على الذهنيات المعنية بالتاريخ والمجتمع، والتي تستهزئ بالحقائق من قبيل “التشييد البهيّ للدولة القومية” الفلانية بمنوال مجرد ومنفرد. بالتالي، ومثلما لا تتعلق القضية العربية بإسرائيل فقط، فإنه لا يمكن اختزالها إلى مستوى القضية الفلسطينية–الإسرائيلية فحسب. في حين أنّ أعقد وأولى القضايا التي تعاني منها المجتمعات العربية، تنبع قبل كلّ شيء من تقسيم العرب إلى اثنتين وعشرين دويلة قومية. فهذه الدول الاثنتان والعشرون لا تستطيع الذهاب في دورها أبعد من كونها تنظيماً عميلاً جماعياً للحداثة الرأسمالية. ووجودها بحدّ ذاته يعدّ الإشكالية الرئيسية على الإطلاق بالنسبة للشعوب العربية. بالتالي، فالقضية العربية مرتبطة ببناء وتأسيس الحداثة الرأسمالية في المنطقة. ولا إشكالية جدية إلا في هذا الإطار، أي ارتباطاً بإسرائيل بوصفها قوةً مهيمنةً في المنطقة ارتباطاً بالحداثة الرأسمالية.
لكن، يؤكد القائد أوجلان أنه علينا ألا نتغافل عن أنّ القوى التي شادت إسرائيل هي نفسها التي شادت الدول القومية العربية الاثنتين والعشرين. بالتالي، فتجاذباتها وتنافراتها مع إسرائيل تتسم بماهية التمويه. ونظراً لتشاطرها النظام المهيمن عينه من حيث المضمون، فإنّ تناقضاتها معها لن تكون ذات معنى، مهما كانت جدية، إلا إذا تجرأت على الخروج من إطار الحداثة الرأسمالية. وإلا، فكيف لك أن تنضوي تحت كنف هيمنة الحداثة الرأسمالية عينها، دون أن تعترف بإسرائيل! إنّ الدبلوماسية المقنّعة والزائفة تنبع بالتحديد من إنكار هذه الحقيقة. فجميع المقاربات الإسلامية القوموية، التي يراد إحلالها محلّ الحداثة الرأسمالية، هي محض رياء؛ سواء الإسلام الراديكاليّ منها أم الإسلام المعتدل أم إسلام الشيعة. فهذه النزعة الإسلامية أداة أيديولوجية خاصة بالرأسمالية، إذ تسلّطها على البلدان الإسلامية في الشرق الأوسط، ولا علاقة لها بالحضارة الإسلامية. بل هي نسخة مشتقة من القوموية المتصاعدة في كنف هيمنة الحداثة الرأسمالية اعتباراً من مطلع القرن التاسع عشر. والنزعات الإسلامية السياسية البارزة في القرنين الأخيرين، لا تتعدى كونها عميلةً مقنّعةً للهيمنة الرأسمالية؛ لأنها صمّمت لهذا الغرض، ودفعت للحراك ارتباطاً بالحداثة الرأسمالية. وبالأساس، فعجزها عن أداء دور يتخطى تجذير القضايا الوطنية والاجتماعية داخل منطقة الشرق الأوسط خلال القرنين الأخيرين، إنما يؤيّد هذه الحقيقة. وعليه، فهي تشكّل العوائق الأيديولوجية والسياسية الأساسية أمام الكومونالية والوطنية الديمقراطية. أما الإسلام الثقافيّ، فهو موضوع مختلف. وتبنّي هذا الإسلام والدفاع عنه ارتباطاً بالتقاليد له جانبه الثمين والإيجابيّ.
إذا لم يتخطّ تبعيته للحداثة الرأسمالية، فلن يتخلص الصراع العربيّ–الإسرائيليّ أو الفلسطينيّ–الإسرائيليّ من التشبّه بصراع الفأر والقط كما يؤكده القائد أوجلان، فما يتجلى في النتيجة هو هدر طاقة الحياة لدى الشعوب العربية قاطبةً في معمعان هذه الاشتباكات الواضحة النتيجة سلفاً، والتي تدور رحاها قرابة قرن بأكمله. ولو لم تفتعل هذه الاشتباكات والصراعات، لكان هناك وطن عربيّ نظير لعشرة أمثال اليابان من حيث وارداته النفطية فقط.
أهمّ نتيجة نستخلصها من هذا التشخيص، كما يقوله القائد أوجلان هي أنّ منهجية الدولة القومية في الشرق الأوسط ليست منبع حلّ للقضايا الوطنية والاجتماعية الأساسية حسبما يزعم. بل إنها منبع تصعيد وتجذير وتفاقم وعقم هذه القضايا. ذلك أنّ الدولة القومية لا تحلّ القضايا، بل تنتجها. بل وأبعد من ذلك، فالنظام نفسه لا يقتصر على تأليب دول الشرق الأوسط على بعضها بعضاً. بل إنه وسيلة لتأجيج النزاعات بين مجتمعاتها أيضاً إلى أن تخور قواها. وحقيقة العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرهم تؤكد مصداقية هذا التشخيص بأحسن صورة.
ولكن هنا يزيد القائد اوجلان اننا لا نستطيع إلقاء الحمل كلياً هنا على عاتق الحداثة الرأسمالية. ذلك أنّ الأيديولوجيات الإسلاموية واليسارية (الاشتراكية المشيدة) والتنظيمات السياسية البارزة بصفتها تحرريةً ومناسبةً لحل القضية، مسؤولة هي أيضاً عن ذلك، بقدر العناصر الحاملة للحداثة الرأسمالية على الأقلّ (الجون تورك، الجون كورد، الجون عرب، والجون فرس). فكيفما أنّ أيّ أسلوب أو منهاج اقترحته على شعوبها منذ حوالي قرن من الزمان لم يسجل أيّ نجاح يذكر، فإنها لم تتمكن من لعب دور يتعدى خدمة بناء الحداثة الرأسمالية إقليمياً، وتوظيف نفسها لهذا الغرض. ولا يمكننا إنكار دور هذه الحقائق، تأسيساً على أيديولوجيات الدولتية القومية العربية والتنظيمات السياسية أيضاً.
ويبين القائد أوجلان أن القضايا العربية أيضاً كالقضية التركية، ليست عصيةً على الحل. ويقول انه تدور المساعي هنا لتحليل القضايا على محورين رئيسيّين:
1- يعتمد المحور الأول على مضاعفة الحصة من أجهزة الدولة والمجتمع تحت كنف النظام القائم، وعلى افتعال النزاعات اللازمة بغية حصد النتيجة المرجوة. هذه هي النتيجة التي تطلعت الدول القومية العربية –بما فيها منظمة التحرير الفلسطينية– للوصول إليها عبر الاشتباكات التي جرّبتها طيلة العقود الخمسة الأخيرة. وسيعمل على إتمام هذا المحور عاجلاً أم آجلاً، عن طريق معاهدة شبيهة بمعاهدة كامب ديفيد المبرمة مع مصر. لكنّ هذا الطريق لا يعني أكثر من زيادة وطأة القضايا الاجتماعية العربية، وحملها بالتالي على اتّباع الحلول الراديكالية. قد يحظى هذا الطريق برضى الدول القومية العربية الأوليغارشية، التي تسند ظهرها إلى البترول. ولكنه لن يستطيع البتة تلبية مطالب شعوبها الاقتصادية والديمقراطية الأكثر عمقاً. فالشعوب العربية تعاني من قضايا اقتصادية وديمقراطية متراكمة كالجبال الشاهقة على مرّ التاريخ. دعك جانباً من أن تقوم الدول القومية العربية، التي غدت قمراً يدور في فلك الحداثة الرأسمالية، بحلّ تلك القضايا؛ بل إنها لا تودّ التلفظّ حتى باسم الحلّ. وقد ضاعفت من حدّتها باستمرار، وعملت على التواري خلف الصراعات الدينية والمذهبية الزائفة والمصطنعة على الدوام. بحيث انتقلت بالقضايا العالقة إلى طور بات لا مفرّ فيه من الانحلال والتبعثر والتوجه صوب الاشتباك حتى الرمق الأخير مثلما يشاهد في مثال العراق وسوريا واليمن وليبيا وغيرهم، أو المطالبة دون بدّ بالحلول الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوطنية الديمقراطية الجذرية.
2- لا يمكن الحديث عن المحور الرئيسيّ الثاني في حلّ القضايا العربية، إلا على خلفية تجاوز الحداثة الرأسمالية. إننا نتحدث عن الانقطاع عن النظام القائم. إذ يتحتم المعرفة يقيناً أنه يصعب على الراديكالية الإسلامية أو الإسلام السياسيّ أن يشكّلا حداثةً بديلة. حيث ليس باستطاعة الإسلام أن يلعب دوره كثقافة، إلا في ظلّ حياة تسودها عصرانية بديلة للحداثة الرأسمالية. وأقوى وأصحّ خيار للشعوب العربية، هو براديغما العصرانية الملائمة للحقائق والوقائع التاريخية والاجتماعية لشعوب الشرق الأوسط جمعاء. والعصرانية البديلة من أجل الشعوب، هي العصرانية الديمقراطية التي لطالما كافحت ضد الحداثة الرأسمالية، والتي تتألف من الأمة الديمقراطية ومن مجموع الحركات الاشتراكية والأيكولوجية والفامينية والثقافية.
ويشير القائد أوجلان إلى إسرائيل عندما يشير إلى حزمة القضايا، التي تحتلّ المرتبة الثانية ارتباطاً بالقضايا العربية، ويقول انها تتعلق بوجود إسرائيل. فنظرة النزعات القوموية والإسلاموية والدولتية القومية العربية حيال إسرائيل، قد أطلقت بتوجيه من هيمنة الأيديولوجيا اليهودية–الإسرائيلية بالتحديد، بحيث تدور ضمن الحدود المرسومة من قبل هذه الأيديولوجيا ودولتها. ولدى البقاء في كنف نفس الحداثة، فلن تتعدّ كونها ألعوبةً بيد الهيمنة الإسرائيلية ذات التعداد السكانيّ القليل. كما لن تتخلص إسرائيل بذات نفسها من التحول إلى أسير للحداثة الرأسمالية التي ابتكرتها بذات يديها. ولن تتقاعس إسرائيل قطعياً عن حماية نفسها ارتكازاً إلى تفوّقها في حقل السلاح التقنيّ، بما في ذلك الذّرّة؛ في حال شعرت بوجود القوى المتأهبة حولها لخنقها في كلّ لحظة وإغراقها في عرض البحر العربيّ الواسع.
بناءً عليه، يشير القائد أوجلان أنه امام إسرائيل خيارين:
1- إما على إسرائيل أن تخلق التوازن مع دول قومية شرق أوسطية متسالمة معها في ظلّ هيمنتها هي، أي تحوّلها إلى إمبراطورية إقليمية تأسيساً على إشعالها الدائم لفتيل الحرب بغية تمكين ديمومة هيمنتها وفق المسار الحاليّ. فمن المعلوم أنّ لإسرائيل مشروع في بسط نفوذها من النيل إلى الفرات، بل وحتى إلى أبعد من ذلك. إنه مشروع خطّط له لأجل ما بعد عهد الإمبراطورية العثمانية. ورغم قطع أشواط لا يستخفّ بشأنها، إلا إنه بالمقدور الإشارة إلى أنه لا يفتأ بعيداً عن بلوغ مآربه. وكون إيران أيضاً (التي باتت تقف في وجهها مؤخراً) تضمر حسابات مهيمنةً مماثلة، إنما يفضي إلى التوتر فيما بينهما. إلى جانب معاناتها من توتر مشابه مع تركيا أيضاً، رغم عدم الجزم بمدى جديته. بناءً عليه، فموضوع الحديث هنا هو سياق صراع على الهيمنة الإقليمية، والذي يبدو أنه سيمرّ مشحوناً بالاشتباكات الطاحنة. وتلك الحسابات المهيمنة المتبادلة بذات عينها، هي التي تولّد القضايا النابعة من الدولة القومية، والتي لا مفرّ من تفاقمها طردياً.
2- أو أن تضع تجاوز الحداثة الرأسمالية نصب عينيها، إن كانت تودّ الخلاص من حالة الأسر للنظام الذي أوجدته. أي أنه أمام إسرائيل والشعب اليهوديّ، الخروج من الطوق المحاصر بالأعداء المتربصين، والانضمام إلى مشروع “اتحاد الأمم الديمقراطية في الشرق الأوسط”، واستلام زمام المبادرة الإيجابية لتحقيق الانطلاقة بالتأسيس على ذلك. فبمقدور رأس المال الفكريّ والماديّ، الذي تستند إليه إسرائيل، أن يؤدي دوراً بالغ الأهمية من أجل مشروع “اتحاد الأمم الديمقراطية”. إذ بوسعها تعزيز شأنها أكثر كأمة ديمقراطية، وتعميم ذلك على نطاق أرقى لاتحاد الأمم الديمقراطية على صعيد الشرق الأوسط، محقّقةً بذلك الأمن واستتباب السلام المستدام الذي هي في مسيس الحاجة إليه.
ويؤكد القائد أوجلان على العصرانية الديمقراطية التي يعتبرها خياراً يشكّل طريق الحلّ المستدام والوطيد ضمن معمعة الشرق الأوسط. ليس لأجل القضية اليهودية فحسب، بل ولأجل قضية دولة إسرائيل المحاطة بالوحوش القوموية والدينية المتشددة، التي خلقتها بكلتا يديها. و العصرانية الديمقراطية بمرتكزاتها الثلاثة (الأمة الديمقراطية، الاقتصاد الديمقراطي، الصناعة الأيكولوجبة) تشكل البديل والمقابل للحداثة الرأسمالية بمرتكزاتها الثلاثة أيضاً( الدولة القومية، الرأسمالية، الصناعوية).
ونظرية الأمة الديمقراطية للقائد أوجلان تعني قبل كلّ شيء وقف حركة تمزيق الوحدة الثقافية وتقطيعها على نمط القصّاب. أي أنها تعني وقف الدولتية القومية، والتخطيط للعالم الذهنيّ اللازم لعودة البدء بالوحدة المتكاملة. وتضفي نظرية الأمة الديمقراطية قيمةً مبدئيةً على توحيد العالم الثقافيّ للشرق الأوسط تحت مصطلح “اتحاد الأمم الديمقراطية”، وتنيطه بالأولوية. أي أنه يتحتم على عالمنا الثقافيّ المنشأ على مرّ عصور التاريخ قاطبة، والذي يتميز بالتكامل والوحدة بكلّ ما تشتمل عليه من تنوع وفير؛ أن يرصّ صفوفه ويوحدها في كنف هذا المصطلح كبديل للحداثة الرأسمالية. فلنلق نظرةً خاطفةً على القرن الأخير: لقد تحوّل المجرى صوب الانقسام المستمر. فالقوم العربيّ لم ينقسم إلى اثنتين وعشرين دولةً قوميةً فقط. بل وانقسم إلى مئات العقليات والتنظيمات والقبائل والمذاهب المتضادة والمتنافرة فيما بينها، والمتجسدة ميدانياً كدويلات قومية بدئية. وهذه هي غاية الفلسفة الليبرالية بالمعنى الاستعماريّ. فآفاق الفردية الرأسمالية وقدراتها لانهائية في تذرير المجتمع وتشتيته. بناءً عليه، فنظرية الأمة الديمقراطية تعبّر عن التكامل المبدئيّ الأساسيّ على الدرب المؤدية إلى إعادة تكريس الوحدة العامرة بروح الحرية والديمقراطية.
كما أن مضمون نظرية الأمة الديمقراطية، باختزال، كما يبينه القائد أوجلان في مرافعاته وللتحول إلى أمة، فهي ترتأي مفهوم الأمة التي لا تتميز بالحدود السياسية الصارمة، والتي تمكّن من إنشاء مجموعات وطنية عليا مؤطّرة باتحادات متنوعة من مختلف الأمم التي تقطن نفس الأماكن، بل ونفس المدن أيضاً. وبهذا المنوال تجعل المجموعات الوطنية الكبرى والمجموعات والمكونات الوطنية الأصغر منها (والتي ألّبت على بعضها بعضاً بسبب الحدود) متساويةً وحرةً وديمقراطيةً تحت لواء نفس الاتحادات الوطنية. تطبيق هذا المبدأ لوحده، يكفي لإفراغ سياسات “فرّق–تسد” و”اهرب أيها الأرنب، وأمسك به يا كلب الصيد” التي يتّبعها النظام المهيمن. إنّ القيمة الباعثة على السلام والحرية والمساواة والديمقراطية ضمن هذا المبدأ الثابت، تبرهن بجوانبها هذه دورها المتفوق في الحلّ والقادر على إفراغ جميع الممارسات الحربية والاستعبادية والطبقية والاستبدادية الفاشية للدولة القومية. إذ لا يمكن وضع حدّ نهائيّ لقوموية الدولة القومية الواحدية وذات الفكر المطلق، إلا بوساطة ذهنية الأمة الديمقراطية. إنها النظرية والمبدأ الأنسب، ليس فقط لأجل الحدّ من انقسام العرب وتمزقهم اللامتناهي، بل لأجل وقف انقسام الأتراك وتجزؤهم اللامتناهي أيضاً. فما شهده العالم التركيّ في العديد من أصقاع المعمورة من البلقان إلى القوقاز، ومن آسيا الوسطى إلى الشرق الأوسط، وما عاناه من انقسام وتشتت وعبادة عمياء لإله الدولة القومية ومن تكالب على بعضه بعضاً بسبب العقليات الميتافيزيقية والوضعية الاستشراقية؛ كلّ ذلك لا يمكن تخطيه، ولا إعادة لمّ أشلائه ضمن إطار المبادئ العامرة بالمساواة والحرية والديمقراطية؛ إلا من خلال نظرية الأمة الديمقراطية.