محمد أرسلان علي
لطالما كان الاعتراف بالمسؤولية عمّا نعانيه وتعانيه مجتمعاتنا من فوضى ضربت كافة أشكال الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من أقصر الطرق لحل عقدة هذه الفوضى التي أصبحت وبالاً على الجميع من دون استثناء. هذا الاعتراف يحتاج لقوة كبيرة من الثقة بالذات كأول خطوة في الطريق السليم، لأنه كالذي يعترف بالذنب والذي من خلالها تجاوز نصف المصيبة، كما يُقال. فعملية البحث والنبش عن الأسباب التي أودت بنا أن نُعتبر من قِبل الغير أننا مصنفون من العالم الثالث أو من الدول النامية أو حتى الفاشلة والهشّة التي لا تحل ولا تربط، عملية البحث هذه بحدِ ذاتها تعتبر محاولة جدية للخروج من المأزق الذي بات كالحبل الذي يلتف حول أعناقنا ليخنقنا، ونتمنى أن يخنقنا كي نتخلص من مما نحن عليه ونرتاح من هذه الدنيا في نهاية الأمر.
كثيرة هذه الأبحاث التي هطلت علينا من قِبل الكثيرين ممن يدعون التعليم والثقافة والمعرفة، لكن جُلَّها كان من دون أية فائدة تذكر حينما تريد تطبيقها على أرض الواقع. لأن معظمها تم استنساخها من تجارب الآخرين من دون أخذ الحيطة باختلاف الثقافات والمكان والزمان وحتى الجغرافيا. لربما تقدمت بعض البلدان في الكثير من النواحي الحياتية، ولكن هذا لا يعني أنهم استلهموا تجاربهم من الغير من دون تغيير أو إضافات عليها وابدعوا فيها. ربما كان لعملية التغيير هذه الكثير من المطبات التي لاقوها ولكنهم أصروا على أنهم عازمين على التغيير نحو الأفضل، تاركين وراءهم الماضي بكل مآسيه وتراجيدياته المحزنة متسلحين بالإصرار لبناء الأفضل.
بكل تأكيد هذا التغيير لا يمكن أن يحدث بيد واحدة أو من قبل فئة يتم تعيينها أو توكيلها بهذا التغيير، إن لم يكن ثمة إرادة مجتمعية على هذا التغيير نحو الأفضل. فأوروبا لم تصل لما هي عليه الآن بعصا موسى أو بالدعاء في دور العبادة فقط، بل عمل المثقفين والمناضلين الذي حملوا مسؤولية التغيير تلك على عاتقهم رغم كل الصعاب والعراقيل وحتى الاتهامات التي كانت تلاحقهم. لكنهم لم يُعيروا اهتماماً لكل “القال والقيل” أينما كان مصدره، لأنهم كانوا عاكفين على التغيير الذي لا بد أن يكون مهما كلف ذلك من أثمان. وكانت محاكم التفتيش تقف بالمرصاد لهم. وكم من قرابين قدموها كرمىً لما كانوا يحلمون به ويعيشونه الآن.
مجتمعاتنا ومنطقتنا التي تئن تحت وطأة الجهل والتجهيل والماضوية الدينية المتطرفة لا زالت تحن لذاك الماضي الذي تركنا وابتعد عنّا كل هذه القرون، لكننا لا زلنا متمسكين به ومعتقدين أننا من دونه لا شيء وأن عجلة التاريخ ستتوقف إن نحن لم نبعثه كما هو من جديد. وهنا يكمن المأزق الحقيقي الذي ما زلنا نعيشه بكل تفاصيله المأساوية. الكثير هنا وهناك فرادا حاول العمل على تغيير الخطاب الديني والقومجي في مجتمعاتنا، إلا أنهم كانوا عرضة للكثير من الاتهامات الجاهزة والمقولبة وحتى الإدانة ليكونوا وجهاً لوجه أمام نهايتهم المأسوية المتوقعة، من دون أي نصير أو مدافع عنهم أيضاً. وهكذا باتوا وحيدين بنضالهم الفكري التنويري كما سيكونوا وحيدين أيضاً عندما تم تطبيق الحدّ عليهم.
ابتلينا بثقافة مجتمعية لا تقبل التغيير مهما كان وأي محاولة من أي كائن كان بكل تأكيد فلن تكون نهايته أفضل ممن سبقوه. التاريخ متخم بأمثلة هؤلاء المثقفين والمناضلين الحقيقيين الذين أرادوا لمجتمعاتهم وشعوبهم أن تلحق بركب الإنسانية قبل كل شيء وبعدها الحضارة. لكن سماسرة وكهنة الدين والقومجية المتزمتين الذين يحملون عقول متحجرة فوق رؤوسهم، رفضوا ولا زالوا رافضين لأي عملية تجديد في الخطاب الفكري والديني والقومجي والنسوي والاقتصادي وحتى الثقافي. فأي عملية تغيير ينبغي أن تحصل فيجب أن تكون عن طريق السلطة المستبدة وكل من يدور في فلكهم من أفواه وأقلام مأجورة وانتهازية.
سماسرة وكهنة الدين والقومية والمثقفين عندنا مختلفين عن أي تجار آخرين أينما كانوا وربما كان لقوة أسلوب الخطابة عندهم تأثير أكبر بكثير من المنطق والعقلانية وحتى العلم. التجارة بالدين والقومية تحول لتجارة مربحة كثيراً لا يمكن مقارنتها بأي وظيفة أخرى في الماضي ووقتنا الراهن. يستميتون في تفسير الدين والقومية وفق أهواءهم الخاصة وحسب مصالحهم وأطماعهم وسلطتهم، ويرفضون أي تفسير آخر لما هم يعتقدونه حقيقة مطلقة لا غبار عليها. يحرفون كلام الله تعالى كيفما يشاؤون ومتى ما تبتغي مصالحهم السلطوية ذلك، من دون أن ترتجف لهم طرفة عين، لينطبق عليهم قول تعالي: ” مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا” (النساء – 46). فثمة من يدعون التغيير باسم الدين والقومية لكنهم دأبوا على تبديل كلام الله وتغييره عمَّا هو عليه افتراء على الله، ويقولون: سمعنا قولك وعصينا أمرك واسمع منَّا.
حكامنا وأنظمتنا وكل من يسير بركبهم من كهنة دين أو سماسرة ثقافة وكذلك تجار قومية من مدَّعي السياسة والمثقفين والمناضلين الذين تحولوا لجامعي ثروة ومال بعد أن باعوا الثورة والمجتمع، معظمهم لا همّ لهم سوى أن يستلذوا بما جمعت أيديهم من مال وأعمت بصيرتهم وفؤادهم. فدور المثقف كبير جداً في تغيير ثقافة أي مجتمع يسعى نحو التغيير والتطور ويفضحوا الفاسدين. فالأديب الفرنسي جوليان باندا يرى في كتابه الشهير خيانة المثقفين: أن “المثقفون يُعتبرون في مرتبة تفوق مرتبة البشر العاديين، نظرًا لدورهم الأساس في فضح وتعرية الفساد ومناصرة الضعفاء”، في حين يرى سارتر: أن “المثقف هو صاحب الموقف الملتزم والمنحاز إلى القيم والعدل والحق والنيات الحسنة، قبل أن يكون تقنيًا ومتخصًصًا بأحد فروع العلم أو فنانًا”.
لا يختلف الأمر كثيراً عمّا نراه في سوريا والعراق واليمن وليبيا وإيران وتركيا، وغيرها من البلدان التي تنهش الفوضى بمجتمعاتهم وشعوبهم التي لم تعرف معنى الكرامة والحرية يوماً. أنظمة وحكام لا يختلفون كثيراً عمن يوسمون أنفسهم بالمعارضة التي ولِدت من رحم نفس الأنظمة الشمولية السلطوية والشوفينية.
من الدين لا يفقهون شيئاً سوى ما ينفعهم ومصالحهم وغير ذلك لا يفتون به ولا حتى يذكرونه لا من قريب ولا من بعيد. أما الأمور التافهة فيتمسكون بها ويفرضونها على المجتمعات على أنها هي فقط الدين كله. أما عن مكارم الأخلاق، الضمير، العفو، الرحمة، التقوى، وإنا خلقناكم شعوباً وقبائل، ومن آياته اختلاف ألسنتكم، فلم يسمعوا بها أو أنهم يتناسوها، وفضلوا الصمت على إعلاء كلمة الله.
كتبٌ وآلاف الفتاوي والتفاسير عن تعدد الزيجات وما ملكت أيمانكم وزيجات المسيار والمتعة والعرفي، اتحفنا بها العمائم السوداء والبيضاء، كي يرضوا نزواتهم وغرائزهم، لكنهم بنفس الوقت يرفضون أو يقتلون كل من ينادي بتعدد اللغات والقوميات والثقافات والألوان والشعوب. داء أصابنا جراء الثقافة التي ورثناها عن أجدادنا ولا زلنا بها متمسكين. فما نراه من مآسي وويلات وقتل وتهجير وحرق ونحر ودمار، معظمه من أننا أخذنا ما هو وفق مصلحتنا من كتاب الله وهجرنا ما تبقى ليكون في طي النسيان. الجميع يعتبر نفسه من الفرقة الناجية والآخر هو الكافر والفرقة التي بالنار. النتيجة هي ما نره الآن ونعايشه وليس ما نقرأه كما كتب التاريخ. الكل يقتل الكل والكل يرفض الكل، وكل ذلك باسم الدين والقومية المتعصبة. بتنا نعيش في بلدان واهنة كبيوت العنكبوت ودول هشّة وأنظمة مسخة لا حول لها ولا قوة. في مقال له تحت عنوان (بيوت عربية واهية) كتب محمد فتحي الشريف مقال يقول فيه: “يعيش الوطن العربي يعيش تفككاً أسرياً غير مسبوق حتى أصبحت البيوت العربية أوهن من (بيوت العنكبوت)”. كلمة في مكانها ولكن ليست الأسر فقط باتت مفككة ومشتتة، بل بلدان ودول المنطقة كلها باتت مقسمة ومشتتة ومتصارعة فيما بينها، وما حالة الطلاق التي تشهدها الأسر في هذه البلدان، إلا حالة انعكاس حقيقي لحالة الطلاق التي تعيشها دولنا مع بعضها البعض، بعد أن كانت منذ أكثر من سبعون عاماً ترفع شعار (بلاد العُرب أوطاني..).
مجتمعات هشّة وأشباه مثقفين مسخين وكهنة نزوات ابتلينا بهم أجبرونا على أن نعشق الرياضة ونجاهد من أجل السبي وتعدد الزيجات وما ملكت أيمانكم ونلهث وراء فنانين عُراة، لكنهم هم نفسهم يحثّونا على رفض تعدد القوميات والأعراق والثقافات واللغات والديانات. وفوق ذلك كله نفتخر بأننا “خير أمة أخرجت للناس”.
ما نعيشه ما هو إلا أزمات من كافة الاتجاهات والنواحي. أزمة أنظمة وأزمة حكام سلطويين وأخلاق وأزمة احترام الآخر وأزمة التعصب القومجي وأزمة التزمت الديني وأزمة الجنسوية الجندرية وأزمة المعنى… الخ.
وهذا ما يحتم علينا أن نتحدث عن أخلاق الإنسان، ففضائل الإنسان هي فضائل المثقف ورجل الدين والساسة، ورذائله ذاتها، والأخلاق بعموميتها هي أنسب الطرق للوصول إلى قلوب الناس وعقولهم، لكننا نتجاهلها، استبدلنا الاجتهاد والمثابرة بالطعن في الظهر، وقابلنا الاحسان بالاساءة، وتجاهلنا القدرة على صياغة العلاقات السوية بالبحث في كل ما يعكر صفو العيش ويكدر مثالية التواصل الإنساني، ويوم أن غابت أخلاقنا غابت معها ضمائرنا. غابت الجرأة في طرح القضايا والمواقف، دفعنا باليمنى ثمن ما قبضناه في اليسرى.
الثورة الذهنية ربما تكون أكثر ما نحتاجه في راهننا مقارنة بأي ثورة نريدها. فلا يمكن للثورة ان تنجح من دون أن نبدأ بالثورة الذهنية الذاتية وكذلك المجتمعية، نظراً للكم الهائل من الأمور التي تعشعشت في ذاكرتنا المجتمعية وباتت من المسلمات التي نعيشها حتى من دون التفكير بصوابيتها أو سلبياتها. وربما يتم عزو فشل معظم من أدعوا أنهم يثورون على الأنظمة الحاكمة المستبدة على قلة الدعم والمساندة. لكن يبقى ذلك أقل من نصف الحقيقة. لأنهم لم يعيروا أي أهمية للثورة الذهنية. حيث أنهم أرادوا فقط تغيير الزعيم والرئيس ويخلعوه من كرسي السلطة ليجلسوا هم عليه فقط. وهنا تكمن المشكلة الأساسية فيما نعانيه من حالة التخبط واليأس والإحباط مما تم تسميته بالربيع العربي الذي تحول إلى ثورات فاشلة ضد أنظمة هشّة مثلها. ووفقًا لكانط فإن “الثقافة معرفة وقيمة أخلاقية بالدرجة الأولى”. لذلك فإن القيمة الحقيقية للمثقف والمناضل تتمثل في الموقف المبدئي والأخلاقي الذي يقفه تجاه مصير أمته وشعبه ومجتمعه.
فعندما نعطي نصف وقتنا وهّمنا لقبول الآخر واحترام ثقافته ولغته ودينه ويكون ذلك من أولوياتنا، ربما يكون ذلك محاولة في الاتجاه الصحيح ومحاولة للنهوض من حالة السقوط التي نعيشها.