محمد أرسلان علي
لطالما كانت قضية هذين الشعبين من أهم القضايا التي تؤرقهما وكافة المحاولات والمساعي التي يعملان عليها للخروج من المأزق وعنق الزجاجة الذي أُقحِما به، لم تسفر عن نتائج ملموسة على أرض الواقع لتوحي بأنهما قد تخلصا من أي من تلك المشاكل التي يعانيانها. ورغم أن ما يعانيانه بالأساس يرجع لعاملين أساسيين أثنين ناتجان عن الظروف الموضوعية والذاتية واعتمادهما الحل من الخارج بدلاً من البحث عن أسباب هذه المشاكل من الداخل.
ربما كانت عملية البحث عن حلول للقضايا التي يعاني منها كل شعب على حدا هي بحدِ ذاتها من الأسباب التي أخرت أو جعلتهما يتخبطون أكثر في عملية البحث هذه والمستمرة منذ عقود من الزمن. والقضية الأخرى التي يعانيان منها هي تحديد الصديق من العدو والتي عليها يتم بناء العلاقات لتنعكس من خلالها على مسائل التنمية والتطوير. فبدون إدراك هذه الخطوات لا يمكن لأي طرف أو شعب أو حتى شخص النجاح في أية محاولة للخروج من أي مشكلة يعاني منها، بل ربما ينغمس أكثر كلما تحرك كالذي يحاول الخروج من الرمال المتحركة، فإن هو تحرك سيغوص أكثر وإن هو بقي ساكناً سيصاب بالشلل والجمود والدوغمائية التي سترجعه للماضي والتحجر الفكري.
على هذه الأفكار والرؤى انعقد مؤتمر “العرب والكرد…الحوار طريق المستقبل المشترك” في المملكة الأردنية الهاشمية هذا الشهر، تحت رعاية مركز القدس للدراسات السياسية ولجنة العلاقات العربية – الكردية المنبثقة من المؤتمر الوطني الكردستاني. على مدى يوماً كاملاً حاولت هاتين الجهتين بكل امكانياتهما المعرفية جعل المشاركين في المؤتمر أن يركزوا على النقاش والحوار حول الأسباب التي أودت بهذين الشعبين الأصيلين أن يعيشا الفوضى والجمود حتى باتوا عرضة للكثير من التدخلات الخارجية إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر والتلاعب بمصيرهما من جهة، وكذلك التركيز على أن الحوار هو السبيل الأنجع للخروج من هذه الدوامة ليكونا مصدر حل لكل القضايا بدلاً من استجداء الحلول من الخارج.
مركز القدس ولجنة العلاقات في المؤتمر الوطني الكردستاني على ما اعتقد كانت هذه محاولتهما الأولى ولوضع اليد على الجرح الذي يئن تحته الشعبين العربي والكردي. وأن أكثر من التشخيص الممل والنظري الطويل حاولا أن يحددا بشكل موضوعي الحلول التي يمكن للشعبين العربي والكردي من خلالها حل كافة المشاكل التي يعانيان منها ولكن بشكل مشترك بعيداً عن تفرد كل شعب عن الآخر، نظراً للتاريخ والثقافة المشتركة التي يتمتعان بهما وكذلك المصير المشترك.
حيث أن تاريخ المنطقة يشهد بأن هذين الشعبين كانا دائماً في حالة من الوفاق والتلاحم المشترك في بناء الحضارة الإنسانية ونشرها في الأطراف، وكذلك في صدّ كافة الهجمات التي كانت تتم عليهما من أي جهة كانت. وحتى أن أية محاولات للفصل بين الشعبين ودق أسفين بينهما لم تنجح ولن تنجح بسبب التاريخ الطويل الذي يجمعهما في كافة مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية والدينية.
حيث انعقد المؤتمر في مرحلة حساسة وتاريخية مهمة ومنطقة الشرق الأوسط التي تدور فيها الصراعات والتناقضات للسيطرة على مقدرات شعوب المنطقة من قبل الدول ذات النفوذ والمشاريع التوسعية. وبكل تأكيد ان انعقاد المؤتمر في عمّان له معنىً كبير وإن دلَّ على شيء، إنما يدل على أنه انعقد بهدف إنتاج حوار بنّاء بين مكونات المنطقة المختلفة.
ونتيجة الأزمة التي يعاني منها النظام العالمي والذي يعمل بكل مساعيه للخروج من الأزمة البنيوية التي يعاني منها، وذلك عن طريق إعادة ترسيم حدود منطقتنا سياسياً واجتماعياً وثقافياً وجغرافياً من جديد، وذلك رغماً عن إرادة شعوب المنطقة من عرب وكرد وتركمان وآشوريين ومكونات اخرى. هذه الشعوب التي تعتبر أصيلة في المنطقة والتي لا يمكن الفصل بينهما بسبب التاريخ والثقافة المشتركة التي تجمعهما مع بعض. ويمكن اعتبار سبب بقائها حتى الآن هو اتباعها منهجية العيش المشترك بهوياتها الثقافية المتعددة فيما بينها طيلة آلاف السنين.
في ظِل هذه الفوضى والأزمة انعقد المؤتمر وتم النقاش حول جملة من القضايا التي تعانيها المنطقة. وانعقاد المؤتمر هذا بحد ذاته محاولة لإرجاع الثقة بين شعوب المنطقة من خلال مناقشة القضايا التي تعاني منها وخاصة كيفية الخروج من مأزق الدولة القومية المتعصبة والدينية والطائفية، التي قوضت أواصر العيش المشترك ما بين شعوبه المختلفة. وكذلك قضية المرأة التي أوصلت المنطقة لطريق مسدود يبحث عن أية طريقة للخروج من عنق الزجاجة التي تم إقحامه فيها. رغم أن المرأة العربية والكردية كانت السباقة عبر التاريخ في رصف مسيرة التطور الإنساني والحضاري للمنطقة. لأن هذه المنطقة تعتبر أول مكان برزت فيه العقائد والأخلاق وأول بقعة شهدت استقرار الانسان، وأن ذلك لن يكون إلا بتآخي شعوبها وثقافاتها ووحدتهم للتخلص من حالة الاغتراب التي تعيشها وذلك بالعودة للجذور التاريخية والثقافية والحضارية المختلفة.
ومن جملة التوصيات التي خرجت عن المؤتمر بعد حوار المشاركين فيه والذي كان معظمهم يحمل نفس الهمّ والأمل لعودة العلاقات بين الشعبين إلى حقيقتها والتي اعتبروها من أولى المهام الواقعة على عاتق المثقفين بالدرجة الأولى لايصال الحقيقة للشعوب بعيداً عن الزيف والرياء والقطيعة التي تعمّد البعض في إلصاقها ببعضهم البعض. وعليه أكدّ المشاركون على ضرورة اعتماد الحوار والشفافية لحل كافة القضايا والتناقضات المتجذرة في الشرق الأوسط وكذلك عند وجود أي اشكاليات واتباع الوسائل القانونية والدستورية عند حدوث اي خلاف او نزاع. لأنه من دون الحوار لا يمكن إزالة العراقيل التي تقف مانعاً قوياُ في وجه تقارب هذين الشعبين. حيث عمل أعداء المنطقة وشعوبها على تسيير سياسة “فرق تسد” بكل دهاء للتفريق بين المجتمعات ليسهل عليهم السيطرة عليها ونهب خيراتها وسرقة أرضيها وإعادة هندسة المنطقة والتغيير الديموغرافي الذي طال بعض البلدان واحتلالها، إن كان في فلسطين أو كردستان.
والأمر الهام الآخر الذي اتفق عليه المشاركين في المؤتمر هو أن الحل الديمقراطي هو الطريق الأسلم للنهوض بالمجتمع والرقي به ليكون مجتمعاً منتجاً لا مستهلكاً، وأن هذا لا يمكن له أن يتم إلا من خلال قبول واعتراف كافة الهويات العقائدية والقومية والثقافية (والإثنية) ببعضها البعض واعتبار هذا التنوع والاختلاف عنصر غناً وقوة وليس تفرقة وتقسيم وانفصال، كما يروج له محدودي التفكير ومتحجري العقل على أن الدولة لا يمكن أن تقوم إلا على عرق أو دين واحد. فالايديولوجيات الولائية القومجية والدينية على حدٍ سواء عملت على نشر الفكر والولاء الأعمى للقومية الضيقة وكذلك للدين. فالولاء الأعمى كما قال عنه الكاتب جورج أورويل في روايته الرائعة (1984): “الولاء الأعمى يعني انعدام التفكير، بل يعني انعدام الحاجة إلى التفكير أيضاً. الولاء هو عدم الوعي”.
وهذا التقرب هو الذي أوصل الشعبين والمجتمعات لحالة من الصراع والاقتتال بين بعضهما على أفكار غريبة عن ثقافة المنطقة وحقيقتها. وأن الحل الأمثل للخروج من هذه العقلية الواحدوية، يتمثل بثورة ذهنية بكل معنى الكلمة للتخلص من كافة المصطلحات والأفكار البالية والتي تفرق بين شعوب المنطقة بكل مكوناتها وأثنياتها. وربما كانت فلسفة السيد عبد الله أوجلان في الأمة الديمقراطية ودولة المواطنة والتجسير بينهما هي الطريق لإخراج المنطقة من حالة الاغتراب التي تعاني منها. إذ، لا يمكن لأي شعب أن يعيش في كرامة ورفاهية إن هو لم يشعر بانسانيته قبل كل شيء. وأن الانتماء للوطن لا يمكن أن يتحقق من دون أن يحس الشخص بأن الوطن هو الحضن الجامع للكل من دون تمييز أو تفرقة على أساس عرقي أو حزبي أو قبائلي، التي عملت عليها النظم الشديدة المركزية. وأنَّ العمل على تحويل هذه النظم المركزية إلى نظم اتحادية لامركزية لربما كان الحل الأفضل كي تعبر كافة المجتمعات عن هوياتها التي تم تغييبها أو طمسها تحت شعارات قومجية أو دينوية عديدة والتي فشلت في بناء دولة المواطنة ولم ترتقِ حتى للمضمون الديمقراطي التي كانت تتغنى وتتشدق به.
فالدولة التي من وظيفتها تأمين الحياة الكريمة للإنسان والحفاظ على أمنه كي يكون منتجاً أكثر، تم تحويل هذه الوظيفة إلى أن تحمي الحاكم وتردع الشعوب تحت حجة السيادة والاستقلال. فكما يقول سبينوزا في كتابه “رسالة في اللاهوت والسياسة”: “ليس الغرض الأقصى من الدولة أن تسيطر على الأفراد ولا أن تكممهم بالمخاوف، ولكن الغاية منها أن تُحرر كل إنسان من الخوف، حتى يستطيع أن يعيش ويعمل في أمن تام دون أن يضر نفسه أو يؤذي جاره. إني أكرر القول بأن ليست غاية الدولة أن تحوّل الكائنات العاقلة إلى حيوانات متوحشة أو آلات، بل إن الغرض منها هو أن تمكّن أجسامهم وعقولهم من العمل في أمن، غايتها أن تهيئ للناس عيشًا يستمتعون فيه بعقول حرة، حتى لا ينفقوا قوتهم في الكراهية والغضب والكيد وإساءة بعضهم إلى بعض. إن غاية الدولة الحقيقية هي أن تكفل الحرية”.
إذ، أن الديمقراطية هي ثقافة مجتمعية تبدأ من احترام الانسان لذاته وللآخر والقبول به كما هو وليس كما يريد طرف معين أن يكون الطرف الآخر. ولا يمكن للديمقراطية أن تنمو كثقافة في النظم الأحادية التي تحارب التعددية والتنوع. لأن من آيات الله عز وجل أنه خلق البشر مختلفين ومتنوعين حيث يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} سورة الحجرات، آية “13”. وكذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ} الرّوم آية “22”. فالذي يعمل على فرض لغة على شعب ويترك لغته الأصلية كأنه ينفي ويعارض آيات ومعجزات الله التي خصها على الانسان، ونفس الأمر كأن تفرض على الانسان أن يتخلى عن قوميته وقبيلته ليكون منصهراً في قومية أخرى.
والأمر الهام الذي تطرق إليه المؤتمر هو قضية المرأة التي تم تهميشها بشكل لا يمكن وضع أية حلول لها لتحولها إلى عقدة كأداء وتم التلاعب بها كثيراً تحت اسم الدين تارة والعلمانوية تارة أخرى، حتى خرجت من جوهرها وباتت المرأة بحد ذاتها من أكبر المشاكل التي تعاني منها المنطقة. ورغم أن الكل مجمع على أن المرأة هي أكثر من نصف المجتمع من الناحية النظرية، لكن عملياً يتم تطبيق عكس ذلك في الكثير من الأحيان. فلم يتم النظر إلى المرأة كقضية أساسية يجب وضع الحلول لها حتى الآن، بل كانت معظم التقربات سطحية وشكلية ولم ترتقٍ لجوهر المشكلة. ودعا المؤتمر للتضامن مع قضية المرأة ومساواتها بالرجل في شتى المجالات ونبذ كافة أنواع العنف ضدهنَّ، وأكد على ضرورة تمكين المرأة لتأخذ مكانتها بفعالية في كافة ميادين الحياة.
الشباب والشبيبة الذين يعتبرون عصب الحياة ومستقبل المجتمعات في كافة الأزمنة ينبغي فسح المجال أمامهم ليعبروا عن أفكارهم بكل حرية بعيداً عن التأويل والأحكام المسبقة. وهذا لا يمكن أن يتم من دون توفير بيئة آمنة لهم من حيث التعليم السليم والبعيد عن التلقين. وهذا ما كان يميز المؤتمر من حيث مشاركة بعض الشباب الذي كان يحمل شجون وشؤون الوطن والمجتمع المتخم بالشك والذي يبحث عن أجوبة لأسئلة لطالما كانت تؤرق مخيلته وأحلامه عن طبيعة الشعوب مع بعضها البعض وحتى عن تاريخها الذي يجهله وثقافتها المغيبة عنه.
المؤتمر كان خطوة مهمة لتلاقي هذه الثقافات مع بعضها البعض والبدء بالحوار الذي يعتبر الوسيلة الوحيدة لبناء المجتمع والانسان الحر. وكان من أهم الأمور التي تم التأكيد عليها أن تستمر مثل هذه الفعاليات ولو بأشكال متعددة ومختلفة وحتى أنه يمكن الاستفادة من العالم الرقمي لتمتين العلاقات بين الشعبين العربي والكردية والذي لا بدّ أن يكون هوية المستقبل وقوته.