الأمل والحب في زمن الكورونا

الأمل والحب في زمن الكورونا

محمد أرسلان علي
لطالما عجَّت منطقتنا منذ زمنٍ بعيد بالقضايا والمشاكل التي أثقلت كاهلها مما أثر بشكل مباشر على شعوبها، ومعظم تلك وهذه القضايا كانت الشعوب تدفع فواتيرها الباهظة. حيث لم تهدأ طواحين العنف ولم تنزل رايات المعارك ولم تتوقف الحناجر الحماسية ولا حتى سماسرة وكهنة الحروب ولا كذلك الزعماء والحكام المستبدين (الخالدين)، لم يفكر أحداً منهم على كبح نزواته ومحاربة أهوائه وتقييد هواجسه، بل على العكس عمل على تغذيتها بنرجسيته وانفصامه ورواها من ماء غروره وحرثها بمعول جنون العظمة الذي انتابه. اللعب بالمصطلحات والكلام كان ديدنهم في اصرارهم على الوصول لما يطمحون له في السلطة والجاه. غرور ونزوات واهواء حكامنا تحولت إلى انتصار الحق والاستقلال الوطني والسلام الشامل والعادل وفتوحات وسيادة الوطن ومحق العدو الغاشم والكافر وكل من يدور في فلكهم من منافق وخائن وعميل. مصطلحات ملفوفة بهالة من القدسية التي لا يمكن الاقتراب منها. وتم ذلك بعدما تم افراغ المصطلحات من جوهرها واللعب بمعناها وجدواها، تحولت لمصطلحات هشّة لا قيمة لها عند أي طفل عديم الإدراك بعدما انكشفت الحقيقة المخبأة تحت ظل صنم الرئيس والزعيم على ربوع الوطن، الذي تنهش فيه ذئاب من الخارج والداخل وكله تحت مسمى (ارحل – يسقط – كلن يعني… – طلعت ريحتكن)، والقائمة تطول لهذه الشعارات والتي بنفس الوقت لم تكن بريئة مما نعيشه ووصلناه الآن.
علمونا الثأر والقتل والحذر وشعارات تنمّي هذه الكلمات المستوحاة من الفكر القومجي اليساري منه واليميني أو الديني المتطرف، وكله من أجل الله أو الدولة (الإله الذي يسير على الأرض) كما وصفها الفيلسوف الألماني هيغل. كان العيب والحرام أكبر مصطلحين تم فيهما كبت المجتمع من كافة النواحي حتى تحول إلى مجرد قطيع يسير خلف مرياع يحمل جرساً ينبه كل من خرج عن الطريق بالعودة إليه أو أن الكهنة أو السماسرة المستذئبة ستتكفل بما تبقى.
كل ذلك كان من نتائج الحربين العالميتين التي قضت على كل ما تبقى من ثقافات الشعوب ومجتمعاتها كي يتم إعادة هندستها من جديد وفق أطماع ومصالح قوى الهيمنة الرأسمالية المنتصرة. فتم رسم الخطوط بقلم يسير وفق أهواء وجشع المنتصرين الذين يبحثون عن الربح الأعظمي فقط، ومن رحم هذه الخطوط كانت الحدود السياسية والسيادة المقدسة والدول الهشّة. ومنها أيضاً كانت معظم الأحزاب والتيارات السياسية القومجية منها والدينية والتي نهلت من الفكر الغربي والاستشراقي معظم عقيدتها ومنهجها، بعد تطعيمه بالديماغوجية والبراغماتية المشرقية. وليكون الناتج الفكري ما نحصده الآن بكل تداعياته الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والمجتمعية وحتى الانسانية.
بين ثنائية القومجي الراديكالي أوالديني المتطرف، أسود أو أبيض، الشرق أو الغرب، وما رافقهما من صراعات لا زالت مستمرة حتى الآن ونراها، ما زال البعض يشجع هذا الفريق بينما الآخر يصفق للفريق الثاني. التراجيديا الكبيرة هي أن كل طرف ومشجع يعتبر نفسه من الفرقة الناجية وباقي الفرق في النار. ولا منطقة وسطى ما بين الجنة والنارِ والتي كانت أسوء ما أفرزته الأفكار المتصحرة التي أجبرت الانسان على أن يقضي نحبه فقط ما بين هذين الخيارين، لانعدام الخيارات الأخرى والتي ستكون دائماً مكسوة بظل عصا السلطان.
بين هذه الثنائيات والهويات القاتلة حسب تعبير “أمين معلوف”، اكتشفت لنا قوى الهيمنة المنتصرة في كِلا الحربين العالميتين مؤسسات ما بين بين وتتموضع بوسط هاتين الثنائيتين القاتلتين إدعت أنها أممية شكلاً لكنها دولتية مضموناً ووسمتها بـ “الأمم المتحدة” والتي لم تكن سوى عن دول متحدة لا تهتم سوى بمصالحها وأجنداتها فقط. ومن رحم هذه المؤسسة كانت الولادات القيصرية للكثير من الهيئات والمنظمات المعنية بحقوق الانسان والدفاع عنها. وتم كتابة قوانين اللوح المحفوظ للأمم المتحدة برعاية القوى المنتصرة ووقعت عليه ما تبقى من الدول الهشة التي تم انشاؤها تباعاً ولا زالت. وكل من يناله ظلم من دولة ما أو طرف، ما عليه سوى أن يشتكي في هذه المؤسسات والمنظمات الإنسانية ولينتظر حتى حين ليتم النظر في دعواه وقضيته، هذا إن استعطفوه طبعاً، وهذا الاستعطاف بكل تأكيد مرتبط بمصالح وأجندات “الآلهة الخمس”، التي لها فقط أحقية من تقتل ومن ترحم.
هذا من حيث شكل المؤسسات المعنية بحقوق الانسان بكل مسمياتها وفروعها الخدمية والإنسانية، أما حقيقة عملها فهذا له مجال بحث ودراسات أخرى مختلفة. السلام والسلم وحل النزاعات التي تدعيه هذه المؤسسات إلى الآن لم تتجاوز مرحلة القلق التي عبّر عنه زعيمها منذ تشكيلها وحتى راهننا. وليتم تغيير هذا الزعيم بعد أن يزداد قلقه وقبل أن يتحول هذا القلق إلى اكتئاب ومرض مزمن يتم تغييره، ليأتي خلفه ويركب قطار القلق هذا ليعبر عنه في أي محطة يريدها الزعماء. وليثبت بقلقه هذا أن تلكم المؤسسات والمنظمات ليست معنية بما تعانيه الشعوب بقدر ما يتم إلهاؤهم بعسل المقررات وزبد القرارات المعجونين “بقات” اليمن السعيد (التعيس بأحفاده) و “القنب الهندي” في لبنان الحزين، والتي ما زالت تغني له فيروز (بحبك يا لبنان) رغم ما يعانيه و (من قلبي سلام لبيروت) من الطائفية والمذهبية.
ومن منّا لا يستمع لفيروز في أول دقائق يبدأ فيه الانسان يومه صباحاً، علَّه بصوتها أو صرخاتها النابعة من تنهداتها الفينيقية وهي تغازل البحر ليكون دواءً لآلام فراق الأمل وغرق الحب في زمن الأمراض السياسية والاقتصادية والنفسية والجسدية التي تعاني منها الشعوب والمجتمعات، علّه ينعم ببعضٍ من أمل وحب يرتشفهما مع قهوته، لأنه يعلم يقيناً أن يومه سيكون جحيماً ورتيباً بنفس الوقت عليه، جرّاء الفساد المستشري في معظم مفاصل الدولة الهشّة والمقدسة. الفساد كلمة أو مصطلح صغير ولكنه بحجم وطننا العربي الممتد من المحيط إلى المحيط. لكن رغم كل شيء تبقى الحياة جميلة عند الانسان المشرقي البسيط والذي لا يعني له كل ما يراه ويعيشه، مقارنة بما يتجرعه من بصيص أمل مع كل شفة قهوة يرتشفها وهو يستمع لفيروز الفينيقية الصوت والميزبوتامية الحنين، والمكلل بالمحبة والأمل لغدٍ أفضل.
الأمل والحب الذي اتحفنا به السيد غابرييل غارسيا ماركيز في تحفته “الحب في زمن الكوليرا”، والتي كانت صرخة من الواقعية السحرية أو الواقعية العجائبية التي ظهرت كحركة أدبية في ألمانيا في خمسينيات القرن المنصرم، ورفع لوائها غابرييل في كولومبيا ليعلن أنه في أحلك الظروف والموت يحصد أرواح البشر، لا بدّ من الحب والأمل الذي سينتصر على كل يأس واحباط وقنوط، وسيحول فوضى الفساد والزعماء المستبدين إلى اندماج الانسان مع الطبيعة التي أحبها والتي لا زالت تحتضنه رغم ما تعيشه من ويلات مناخية.
ما ميّز غابرييل في روايته التي ألهمت الكثير، هي براعته في تغيير الأساليب والطرق إذا أراد الانسان أن يصل لهدفه ومبتغاه الذي رسمه لنفسه. روايته تحذرنا من اتباع نفس الطرق البالية للوصول لنتائج جديدة تناسب ما نريده ونشتهيه. وتخطرنا بأن الإصرار على الماضي وبعثه كما هو وكما كان، ما هو إلا ضربٌ من الجنون الذي يؤدي بصاحبه إلى الجحيم والفراق والفوضى، والتي هي بالأساس ما نعيشه في زمن الكورونا الآن، كما كان يعيشونه في زمن الكوليرا. أدرك غابرييل غارسيا بحدسه أن الكوليرا ليست مرضاً بيولوجياً بقدر ما هو فيروس تم تهجينه وتعديله ونشره في القارة الجنوبية من أمريكا، كما كورونا الذي ينتشر وفق ما تقوله بيانات الصحة العالمية والتي تحدد الجغرافيا واللقاح أو الدواء المضاد له بنفس وقت الانتشار.
الواقعية العجائبية هو المنهج الذي اتبعه غابرييل في روايته التي أيقن أنه من غير التصرف السحري لن ينجوا من التعرض للوباء المنتشر في ذاك الوقت. وهي بنفس الوقت رسالة لنا في يومنا هذا أنه من غير أن نكون واقعيين وحاملين العصا العجيبة والسحرية لا يمكن لنا أن نقضي على الفوضى التي تحيط بنا من كل حدب وصوب. فعلى الراوي في يومنا أو الزعيم وكل من يريد أو يدعي أنه سيخرجنا من زمن كورونا، عليه أول شيء أن يمنحنا الأمل والحب قبل كل شيء، لأنه بهما ومن خلالهما يمكننا أن نقضي على كل المصطلحات التي علمونا إياها كي نبقى أحياء في هذا الزمن. فبدلاً من الثأر والقتل والدمار والتكفير والحذر والشعارات الرنانة وترسانة الأسلحة التي يخزنونها والمال الذي يتم صرفه لأمور تافهة، بدلاً عن كل ذلك ليعلمونا كيف يولد الأمل من اليأس وكيف نحب لعدونا ما نحب لأنفسنا. مثلما قال سيدنا المسيح: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردوكم” (مت5: 43، 44). ولكن بنفس الوقت علينا كما قال تعالى في كتابه العزيز: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍۢ” (الأنفال – 60). إعداد القوة لا تعني فقط القوة العسكرية، بل ثمة كثير أنواع من القوى التي ينبغي أن نُعِد أنفسنا بها، بدءاً من القوة الفكرية والتوعوية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية والتعليمية والصحية والنسوية، كل هذه القوى إن اجتمعت سيكون المجتمع حينها محصن من أي أمراض داخلية أو هجمات خارجية. لكن إذا فقط اعتمدنا على القوة العسكرية وأهملنا باقي القوى، حينها على الدولة والوطن والمجتمع والشعب، السلام. لأنهم سيتحولون إلى مجرد قطيع في المقام الأول ومهجرين ونازحين في نهاية المطاف.
علينا من أجل ذلك أن نتسلح بالحب والأمل في تغيير أنفسنا قبل أن نطلب التغيير من الآخرين، والتخندق في الفكر النيّر والمنفتح الذي يقبل الآخر كما هو وليس كما أريد أو اشتهي أنا. وألا نفقد الأمل والمحبة والتقرب منها بشكل واعي بعيداً عن الرومانسية السياسية والنرجسية الاقتصادية، بل علينا التأمل في بناء المجتمع والانسان الحر الذي سيكون كل همّه حب واحترام الآخر. لأن الحديث عن الحرية من دون محبة، ما هو إلا ضحك على الذقون كما يقال، وهو نفسه كالحديث عن “حرية الفكر وتصور نهضة الأدب أو الفن في الدولة الدينية”، كما قال الكاتب فرج فودة.
الأمل والحب والسعادة تكمن في ذات الانسان وملكاته العقلية، وأن “البحث عن السعادة في آراء الناس وأحكامهم لدليل على البؤس الشديد الذي يتقلب فيه هذا الانسان، لأنه يستبدل الواقعي بالخيالي ويقايض الحقائق بالأوهام”. كما يقول شوبنهاور في كتابه “فن العيش الحكيم”.
لربما كانت هناك بقعة ضوء في زمن فوضى كورونا وفوضى المعارك والحروب التي تعيشها المنطقة ونحن في العام الجديد الذي نتمنى فيه ان يعم السلام فيه. بقعة في شمالي شرقي سوريا صغيرة الجغرافيا ولكنها كبيرة بالفكر التنوعي الذي تمتاز به والذي استهلته من فلاسفة المجتمع منذ آلاف السنين والحقيقة المجتمعية لثقافة شعوب المنطقة، التي تعايشت مع بعضها البعض على أساس اخوة الشعوب والعيش المشترك. فلسفة تحتضن كل الاختلافات والثقافات وتنوعاتها وتعمل على بعثها من جديد لتبرهن للعالم أن الكون جميل بغناه الواسع واللا محدود. فلسفة الأمة الديمقراطية التي تعتبر ثورة ذهنية حجّمت وقيّدت كل الأفكار الدوغمائية والمتحجرة التي لا تؤمن بالتعددية واحترام الآخر. وأن أساس هذه الفلسفة ومنطلقها هو المرأة بحدِ ذاتها لما تمثله من باعثة للحياة ومانحة أمل ومحبة لمعنى الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: