بقلم الكاتب والباحث السياسي:أحمد شيخو
نظراً للثقافة والتعايش والحياة المشتركة والقيم المجتمعية الأخلاقية والإنسانية للمنطقة، ظلت شعوب ومجتمعات المنطقة وعلى مختلف مراحل حياتها في تفاعل وتبادل مثمر ومستمر، وبحيث حافظت المنطقة على تكاملها الكلياتي الديمقراطي والوحدة الطوعية فيها، حيث جمعها التاريخ والحاضر والمستقبل والمصير المشترك متجسداً في شكل للسلوكيات والفاعل والعلاقات بين الشعوب والمجتمعات بحيث يؤمن المصلحة والمنفعة المبادلة ويحقق الاحتياجات المشتركة وعلى رأسها الأمنية والسياسية والاقتصادية ويعمل على تعزيز مساحة الحرية والعيش لكل خصوصية وثقافة كل شعب و مجتمع وإدارته لنفسه ومناطقة وثرواته وتربية أجيالهم وفق تراكمه الثقافي والمعرفي وحقيقته الاجتماعية ، ضمن الثقافة التكاملية الديمقراطية والوحدة الطوعية للتكوينات المجتمعية وإن اختلفت نماذج الدول والسلطات المحلية والإقليمية التي تدير أمور المنطقة وشؤونها العامة.
لقد مرت علاقات شعوب المنطقة وعلى رأسهم العلاقات العربية والكردية بمراحل ومحطات كثيرة من المد والجذر باختلاف الظروف والأوضاع ونماذج الحكم وفلسفاتها، لكنها كانت في مجملها علاقات جيرة حسنة ودين حنيف يتسع للكل واعتراف متبادل، تضمن الحياة وبناء العلاقات وفق خطوطه العريضه على الصعيد الشعبي وأحياناً كثيرة على الصعيد الرسمي ايضاً. لكن وكما لأي بناء وتركيب مجتمعي وعلاقاتي له ظروفه وتحدياته حسب الزماكان، للعلاقات الكردية العربية ايضاً العديد من التحديات ربما أهمها أو أكثرها سلبية هي التدخلات الخارجية وتقسيمها المنطقة، حيث أن التواصل والتعاون والتشارك والتكاتف والحياة المشتركة لم يصبح فيها الشرخ والفجوة الواسعة إلا عندما تدخلت القوى الخارجية وقسمت المنطقة وحاولت فرض أفكارها وأجندتها وسياساتها عبر هذه التدخلات والتقسيمات، مع العلم أنه هناك اسباب للتحديات ومحبطات تتعلق بالعرب والكرد انفسهم وبذهنيتهم وسلوكهم ، لكن التدخلات الخارجية وتقسيم المنطقة كانت ضربة قاسمة للعلاقات العربية والكردية كما باقي الشعوب والمجتمعات مع بعضها وزيادة للفجوة بينهم وإضعاف لجسور التواصل والتبادل ومعرفة الأخر وفهم حساسيات الأخر وضرورياته وأهدافه واحتياجاته وبالمجمل قضيته المركزية وكيفية مساعدته وبالتالي التكامل الإيجابي والتفاعل الخير معه.
والمشكلة أن التدخل الخارجي وتقسيم المنطقة انعكس في شكل تيارات سياسية وذهنيات وسلوكيات لبعض قوى من شعوب المنطقة واصبح للتدخل الخارجي والتقسيم حوامل محلية تحمل أجندته وتدافع بكل شراسة عنه ربما لمصلحتهم ووجودهم في الحكم أو في صدارة المشهد العام أو لعدم وعيهم وفهمهم الغير الكامل للحالة وكأن الواقع الناجم عن التدخلات الخارجية والتقسيم هو الوضع الأحسن والأفضل للحرية والديمقراطية والتنمية وعلينا بذل الغالي والنفسي والأنفس والدماء لحمايته والذود عنه، ولاشك أن التيارات الفكرية أو النخب المثقفة والسياسية هي من تتحمل الذنب الأكبر أمام هكذا تصرفات وتوجهات كونهم وبدل أن يكونوا قوة فكرية وسياسية نابعة من تركيب ثقافة المنطقة الأصلية مع مجهودات البشرية العلمية أصبحوا من ضحايا الاستشراق والتبعية الفكرية والهيمنة الذهنية للخارج. وهكذا أصبح للتدخل الخارجي والتقسيم مستويات محلية وإقليمية ودولية وكأنهم حلقة هدفها إنهاء علاقات شعوب المنطقة ببعضها أو إضعافها على قدر الإمكان لتمرير المشاريع الخارجية والتقسيمية وإضعاف القيم التكاملية والمجتمعية.
نموذج الدولة القومية:
ومن بين أدوات التدخل الخارجي الأكثر سلبية كانت إنشاء أدوات صراع ونهب في المنطقة وإضعاف علاقات هذه الشعوب ببعضها، وهنا نصادف نموذج الدولة القومية أو شبكة العلاقات التي بها وعبرها استطاعت التدخلات الخارجية في إضعاف علاقات الشعوب وفسح المجالات والأبواب على مصراعيه أمام الاستغلال ونهب المنطقة والسيطرة عليها وتقسيمها وتبضيع ناسها وقطعنة أهلها. لأن هذه الدولة القومية تحتاج بعض العناصر اللازم لها ومنها:
1-الشدة أو احتكار وسائل العنف والدفاع والقوة وبالتالي ترجيح سيطرة السلطة والدولة امام المجتمع وفق الجدلية التاريخية بين الدولة والمجتمع.
2-القوة الأيدولوجية أو الهيمنة الفكرية لهذه الدولة على الشعوب والمجتمعات التي تحكمها.
3- النهب وسرقة فائض الانتاج أو التحكم بالاقتصاد واحتكاره وأبعاد المجتمع والمرأة عنه.
4_فن الحكم أو فنون التأثير الراضخ والفارض دون اعتبار لإرادة المجتمعات والشعوب وأفرادها.
5_ مأسسة العلاقات وفق المصلحة ومنفعة السلطات والدول ولأجل الربح الأعظمي بعيداً عن الشعوب والمجتمعات.
وبهذا تكون الدولة القومية محفل استفحال المشاكل كالغرغرينا، وتأزيمها والاستمرار بها وليست كما روج بأنها ميداناً لحل المشاكل والقضايا العالقة. وهي تحول بذلك الأوساط إلى مذابح وتقوم بعمليات الصهر وبناء المجتمع الدولتي الحامل للازمة والدولة القومية وتصير الإنسان أحمقاً بليداً على يد العقل المضارب وامكنة تصنيع الأدوات وموظفي الدولة من مدارس وجوامع وكنائس وسوق وسكنات عسكرية.
ولعل حاجة الدول القومية إلى أمتها النمطية المتجانسة الدولتية هي أكثر من اثرت سلباً على العلاقات التاريخية والتقاليد الديمقراطية والأعراف الأخلاقية والاجتماعية السائدة. حيث هنا تصبح هذه الدولة أو الأداة فاشية بفكرها وسلوكها وتدخل حالات تنفيذ الإبادات الجماعية لتحقيق الأمة المتجانسة وتعمل على تطبيق التطهير الثقافي والعرقي والقيام بالتغيرات الديموغرافية لتحقيق اهدافها ويمكننا هنا الإشارة إلى الفاشية التركية وجرائمها ومجازرها بحق شعوب المنطقة بدءً من أيام تركيا الفتاة والاتحاد والترقي وممارساتهم وجرائهم بحق الشعوب العربية والكردية والارمنية فإعدام جمال باشا السفاح وأنور باشا وطلعت للمثقفين العرب الراغبين بالحرية في 6 أيار في عام 1916 في ساحات بيروت ودمشق وما فعلوه بحق الشعب الأرمني والسرياني من مجازر سيفو 1914 ومجازر وإبادة الأرمن 1915 واستمرار إبادة الكرد من 15 شباط عام 1925 وحتى اليوم غيظ من فيض التدخلات والتقسيمات.
ولواردنا ان نعرف تأثير التدخلات الخارجية والتقسيم السلبي على العلاقات علينا عرض عدد من النقاط:
1-التدخلات الخارجية لا تراعي مصالح الشعوب وعلاقاتهم، وبالتالي تظهر تناقض واضح بين سعي الشعوب إلى الحرية والديمقراطية واقامة علاقات التعاون والتكاتف والمفيدة و بين رغبة وسعي القوى الخارجية إلى الهيمنة والتحكم والنهب.
2-التدخلات الخارجية تحاول فرض التقسيم والضعف من مبدأ فرقتسد ولذلك أحد أهم اهداف التدخلات هي إضعاف العلاقات بين الشعوب والمجتمعات و محاولة إنهائها إن أمكن وبل خلق عداوات وصراعات وحروب مستمرة وأزمات حادة وبؤر توتر دائمة وجاهزة للإستفادة منها واستغلال أطراف التناقض والحروب المختلفة. 3-التدخلات الخارجية تدير الأزمات والفوضى ولا تسعى لحلها و ازلتها بتاتاً ، حيث أن القوى الدولية وفي الكثير من الأزمات تستطيع الدفع باتجاه الحل ولكنها تنتظر أن تكون الظروف والشروط في صالح أهدافها وسياساتها . 4-تقديم ادواتها ووسائلها للشعوب والمجتمعات وكأنهم ألوهيات مقدسة عبر الضخ الفكري والإعلامي والسياسي وحتى الديني وبذلك تجهيز القناع الأيدولوجي لشتى أنواع الاستبداد والجور والظلم. 5محاولة تقديم النسخ المزيفة والغير صادقة من القيم الحقيقة للتراث والدين ولثقافة المنطقة ومحاولة إيجاد بدائل تخدمها ولا تنتمي ارتباطاً وسلوكاً وهدفاً للقيم الحقيقة الاصلية في مجتمعاتنا. وتبقى هذه النسخ المصطنعة تشكل مشكلة وتحدي ومانع امام تطوير وتعزيز العلاقات الصحيحة بين شعوب المنطقة ودولها ومجتمعاتها.
تقسيم المنطقة:
أما تقسيم المنطقة فتشكل أيضاً من أهم التحديات الكبيرة للعلاقات بين الشعوب وحتى الدول وإمكانية تطويرها على أرض الواقع فالتنقل والتواصل والتعارف والتجارة والحياة المشتركة والرحلات المتعددة بين أمصار ومناطق وأقاليم المنطقة تم تحديدها وضبطها بدقة وبشكل شبه كامل حتى مع ثورة التواصل وتقنياتها وفق مصالح القوى الخارجية والدولة القومية الحديثة واحتياجاتها الأمنية والسلطوية والاقتصادية ورغبات السلطات الحاكمة في كل دولة قومية، وهنا تم مأسسة العلاقات وفق منطق السلطة والربح ومصالح الدول بعيداً عن المجتمعات والشعوب وظلت العلاقات إلى أمد قريب محصورة وفق صيغة اتفاقية فينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961م بين وزرات الخارجية في الدول القومية أو في إطارات الرسميات الدولية والمؤسسات الدولية التي تم بنائها بعد الحرب العالمية الأولى والثانية لخدمة نظام الهيمنة العالمية. ومع حاجة المجتمعات وحتى النظام العالمي إلى مرونة في الحدود الصارمة و فتح العلاقات على مستويات مختلفة واحتياجات السوق الاقتصادية تم تجاوز الصلابة والصرامة في دول الاتحاد الأوربي وتجاوز حالة الدولة القومية التقسيمية الصلبة، لكن في الشرق الأوسط ، مازالت التقسيمات التي تم فرضها على شعوب المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى هي السائدة وحتى أن بعض التيارات السياسية والفكرية والفلسفية بات هدفها وهمها الأوحد هي حماية هذه التقسيمات وكأن هذه التقسيمات والدويلات التي أوجدها الاستعمار لخدمته هي هبات ومنزلات من عند العلي القدير و نتاج نضال الشعوب وقتالهم وانتصارهم ، وهي في الحقيقة تمثل حالة اغتراب عن قيم المنطقة وتقسيم للتشارك والتكاتف والتكامل الذي عاشه شعوبنا ملايين السنيين واقل مايقال أن هذه الدول القومية تمثل حالة اغتصاب خارجي للمنطقة وثقافتها وعلاقات شعوبها.
إن التقسيمات التي تم فرضها على المنطقة وشعوبها جعلت الشعب الواحد مقسماً بين الدول كما الشعب العربي والكردي وحتى أنه تم تقسيم المدينة الوحدة والقرية الوحدة واحيانا البيت الواحد وأبناء العشيرة والقبيلة الواحدة بين دول عدة مع عدم وجود إمكانية التواصل والالتقاء في كل الأماكن والأزمنة إلا حسب ما يراه السلطات الحاكمة أو حسب الظروف التي تفرضها القوى الخارجية.
إن تقسيم الشعب العربي إلى 22 دولة عربية وتقسيم الكرد بين أربع جدول ووضع إيران وتركيا بالحدود الحالية وإنشاء اسرائيل، لم يكن إلا لمصالح القوى الخارجية و كانت ضربة اساسية للشعبين العربي والكردي ولتعايشهما ولتحالفاتهما التاريخية والديمقراطية فمع هذه التقسيمات اصبحت الشعوب رهينة طبقات السلطة في هذه الدول واصبحت النظرة القومية الضيقة التي لاتقبل بالأخر سوى أن يكون تابع أو ملحق ذليل هي السائدة بين تيارات الحكم في هذه الدولة القومية واصبحت مصالح الحكومات والسلطات هي البوصلة التي تحدد نوع العلاقات وكيفيتها ووقتها وأهدافها. واصبحت الشعوب والمجتمعات التي حرم ومنع من أن يكونوا لهم دولة ممنوعون وبل غير مسموح لهم بإقامة العلاقات مع جيرانهم ومحيطهم بحجة أن العلاقات هي بين الدولة والسلطات وشأن سيادي تعمله وزارات وليس من اختصاص وعمل الجهات الشعبية والمجتمعية ومنظمات المجتمع المدنية. لكن في السنوات الأخيرة تم الإثبات فعلياً أن الدبلوماسية الرسمية غير كافية ولابد فتح المجال أمام مختلف أنواع الدبلوماسية وعلى كافة المستويات حتى تستطيع المجتمعات والشعوب والدول من تحقيق اهدافها و تحصيل التأثير المطلوب في القضايا المطلوبة.
وظهرت ايضاً إشكالية أن النظام العالمي ودوله البالغة حوالي 200 دولة قومية غير قادرة على تحقيق العلاقات المطلوبة بسبب عقم ذهنيتها ومنطقها الدولتي الذي يحصر المؤسسات والتمثيل الرسمي والشرعي فقط في الدول في حين هناك مئات وبل آلاف الشعوب واللغات والخصوصيات والأمم غير ممثلين بدول أو أن الدول القومية الموجودة فيها من غير قومية الدولة فلا تدافع عنهم هذه الدول ولاتمثل هذه الشعوب، بل أن هذه الدول والسلطات وبتواجدها في العلاقات الرسمية والمؤسسات الدولية تريد وعبر هذه التمثيل والعلاقات الرسمية من اتمام عمليات الطهر والإبادة عبر إنكار الشعوب والمجتمعات التي لاتنتمي لعرق سلطة الدولة القومية وخلق عراقيم امام تواصلهم مع المحافل الدولية والإقليمية. وهذا التقسيم الدولتي والرسمي والذهني شكل أكبر تحديات إقامة وبناء علاقات صحيحة بين الشعوب والمجتمعات والدول في المنطقة والعالم.
الدفاع الذاتي ومساحة حرية المجتمع:
كما أن مفهوم الدمقراطة وحقوق الإنسان الذي تبنته بعض القوى والمؤسسات في النظام الدولي على صعيد بعض النخب والتيارات والمؤسسات والقوى و توجهات بعض الدول ظلت في حقيقتها ومن منطقها الليبرالي بعيد عن حاجة المجتمعات والشعوب في إدارة نفسها بنفسها واصبحت مفاهيم الدمقرطة وحقوق الإنسان أدوات لتقزيم إرادة المجتمعات والشعوب الحرة وتعظيم الأنانية والفردية التي في النهاية تقسم حتى المجتمعات والشعوب نفسها وتجعلها خائرة القوى ومفتوحة على الاستغلال وضعيفة التعبير لإرادتها الحرة وكما أن مفهوم الوطنية الذي أرادت الدولة القومية عبرها الإيحاء بأنها قادرة على استوعاب خصوصيات المجتمعات والشعوب لم تكن سوى التفاف على إرادة الشعوب الحقيقة ومنعها وشيطنة حقها في إدارة نفسها والعيش وفق الخصوصية والإرادة الحرة وحقها في التنظيم والدفاع الذاتي. ومما لاشك فيه أن اي طرح أو رؤية تحت اسم الدمقراطة وحقوق الإنسان والدولة الوطنية ويحرم ويمنع المجتمعات والشعوب من حقها في الدفاع الذاتي وممارسة سياستها الديمقراطية عبر إرادتها الحرة، ليس إلا خداع وتضليل من الأنظمة السلطوية والشمولية والمركزية ونخبها وتياراتها ونظام الهيمنة العالمية لسد الطريق ومنع المجتمعات والشعوب من امتلاك الدفاع الذاتي أي قوة حماية نفسها من العبودية والتبعية أمام اشكال الدول القومية أو ما يسميه البعض تجاوزاً وتحريفاً الدول الوطنية، فالمقياس الصحيح هو مقدار مساحة الحرية التي تؤمن وتمتاز بها المجتمعات أمام سلطة وسطوة اشكال الحكم والدولة. فكلما تزايد مساحة حرية المجتمعات والشعوب بالتناسب الطردي مع تقليل تدخل الدول في شؤون المجتمعات والشعوب عندها يكون الديالكتيك( الجدلية) في إطارها الصحيح بين المجتمع والدولة و بين الإنسان والسلطة.
التدخلات الأخيرة:
ولو نظرنا للمنطقة وللدول العربية سنجد أن التدخلات الخارجية وتقسيمها للمنطقة ومنذ القرنين الأخيرين هي ما شكلت موانع وعوائق كثيرة أمام الاتصال والعلاقات والتفاعل بين شعوب ودول المنطقة نظراً لاختلاف مصالح وأجندات تلك القوى الخارجية وتوابعها من الدول القومية مع مصالح وأجندات وتطلعات شعوب المنطقة والدول العربية.
وزادت في السنوات الأخيرة بالإضافة إلى التدخلات الدولية تدخلات القوى الإقليمية ومنها تركيا وإيران و غيرهم ربما في إطار تنفيذ التدخلات الخارجية لنظام الهيمنة العالمية أو في إطار مشاريعهم الخاصة في ظل رغبتهم وتزايد شهيتهم لتنفيذ مشاريعهم السلطوية والإمبراطورية السابقة كالعثمانية والصفوية ومن الفرات إلى النيل وغيرها، وذلك في ضوء حالة الأزمة التي عصفت بالمنطقة وأنظمة حكمها التي أصبحت غير قادرة على الاستمرار من دون تغيير في الذهنية والسلوك ومنطق مقاربتها للحياة.
وحالات الصراعات المستمرة في المنطقة والحروب وعدم قدرة الكثير من البلدان وشعوبها في الوصول إلى تسويات سياسية ترجع إلى التدخلات الإقليمية والخارجية وطمعهم وأهدافهم في تقسيم المنطقة واخذ مناطق ودول لهم أو ضمان أن تكون تحت نفوذهم حتى يحين وقت الضم إلى إمبراطورياتهم المقبلة حسب زعمهم، وبذلك يمنعون الشعوب والمجتمعات من إقامة علاقات التعاون والبناء والحياة المشتركة ويهيئون الظروف لمزيد من الشروخ والإبتعاد والفجوات بين شعوب المنطقة وحتى دولها. فما حصل و يحصل في سوريا والعراق وليبيا واليمن وتونس والصومال والسودان وغيرها من إطالة عمر الأزمة وعدم الاقتراب من الحل يرجع في أحد اسبابه الرئيسية إلى التدخلات الإقليمية والخارجية التي تبعد تكوينات الشعب نفسه أو بين شعوب الدولة الواحدة عن بعضها وتزرع الشقاق والفتنة والصراع بينهم بدل أن يكون بينهم علاقات تعايش ومحبة وتعاون وتفاعل مثمر وذهاب إلى تسويات وحلول، فلولا التدخل الإيراني والتركي والروسي و التنظيم العالمي لإخوان المسلمين الإرهابيين وغيرهم في سوريا لكان الأزمة السورية في غير حالها المتأزم حالياً، ولأستطاع الشعب السوري أن يتحاور فيما بينه دون اقصاء أحد، ولو أن التدخل التركي والروسي وقبله الناتو لم يحصل في ليبيا لما كانت ليبيا في حالها الآن، وكما التدخلات في اليمن والصومال وتونس ولبنان والعراق وغيرها بمعنى أن المنطقة ودولها وحالة ضعف العلاقات بين الشعوب والمجتمعات وعلى مختلف المستويات ترجع في جزء كبير منه إلى التدخلات الخارجية بشقيه الدولي والإقليمي.
ومن الجيد الإشارة إلى المؤسسات الدولية المختلفة والتي تدعي حياديتها واستقلاليتها وهي في واقعها ومن واقع سلوكها أثبتت أنها تمثل يد وحضور ناعم للتدخلات القلقة والغير مقبولة أحياناً كثيرة. كما أن الاتفاقيات الدولية والشرعية الدولية في المجمل واحياناً كثيرة، اصبحت تفسر وتشرح وتحلل وتقدم تقارير وفق منطق كل دولة ورغبة سلطاتها وليس وفق مرجعية عالمية وعلمية صحيحة ووفق الاتفاقيات الموقعة، فلكل دولة تصنيفها الخاص للإرهاب وللقوائم السوداء وخصوصا دول المنطقة وحسب رغبة السلطات الموجودة في الحكم.
الفاعل الكردي:
ولقد وصل الأمر مثلا بتركيا أن تتهم شعب بأكمله بان وجوده خطر على ما يسمى الأمن القومي التركي وكأنه لتحقيق الأمن القومي التركي على الشعب الكردي الموت أو أن يصبح تركياً أو عربياً أو فارسياً وأن يقبل بالعبودية وينسى ويتخلى عن لغته وثقافته ويتنازل عن حقوقه في إدارة نفسه ومناطقه وثرواته. وهذه المقاربات أيضاَ تشكل حالة تحدي وسد الطريق أمام تطوير الشعوب والدول للعلاقات مع الشعب الكردي، فمنطق تركيا القائل بأن بقاء تركيا وإنتهاءها يتعلق بالشعب الكردي و احتلاله و حريته، يجعل كل من يتعامل أو يفكر في إقامة علاقات مع الشعب الكردي ورؤية قضيته العادلة هو في دائرة الشبهات أو ضمن أعداء تركيا حسب الذهنية والعقلية الفاشية التركية ولذلك مركز وجوهر سياسات وعلاقات تركيا مع المحيط والعالم هو مقدار مجاراتهم وقبولهم للسياسات الإنكارية وسياسات الإبادة التركية بحق الشعب الكردي في كل مكان وليس ضمن حدود ما تسمى تركيا فقط.
وهنا نحن أمام حقيقة أنه من لا يرضى بالتدخلات الإقليمية و يريد منع التدخلات التركية في المنطقة وحتى الإيرانية في شؤون الدول العربية ربما عليه أن يقرأ تواجد الشعب الكردي ونضاله بشكل جيد وكافي وأن يسعى ضمن منظومة علاقاته الاستراتيجية إلى إقامة علاقات وتحالفات مع الكرد كونهم اصبحوا ومع نضالاتهم منذ اكثر من مئة عام العامل الاساسي القادر على لجم تركيا وإيران فعلياً ومن الداخل الإيراني و التركي مباشرة وعبر شمال سوريا والعراق وغربي إيران وجنوب شرق تركيا بل أن الكرد سيكونون من أحد عوامل وفواعل النظام الإقليمي القادم وخصوصاً مع فعاليتهم في حرب داعش وموقعهم الاستراتيجي وفلسفتهم الأمة الديمقراطية وطرحهم الكونفدرالية الديمقراطية للمنطقة و أيضاً لما اصبح عليه السياسات السلبية التركية والإيرانية بحق دول وشعوب المنطقة. واهم سبب في سعي تركيا إلى التمدد في دول المنطقة واحتلالها هي لخوفها من ان يتمكن الكرد من إقامة علاقات فعالة ومؤثرة مع العرب وشعوب المنطقة وبذلك لن يفيد كل سياسات تركيا الفاشية ومشاريعها الاستبدادية العثمانية وستمدد الجدار أمام طموحاتهم واحتلالاتهم من كردستان وحتى الدول العربية ومجمل المنطقة ومحيط تركيا ولن يستطيع أردوغان ان يكون سليم الأول، وبالتالي يظهر هنا، كم أن التدخلات الإقليمية لها دور سلبي وتخريبي في العلاقات بين العرب والكرد وشعوب المنطقة ودولها العربية، وما بثته وتبثه تركيا من خطاب الكرهية وبث الفرقة والفتنة و إعطاء صورة غير صحيحة لإبادتها بحق الشعب الكردي ونضال الشعب الكردي لحريته وحقوقه الطبيعية، وهنا تبقى لجسور التواصل والتعارف والمعرفة وعلى كافة المستويات والمجالات له أهميته في تقديم الصورة الصحيحة للوقائع والأحداث وتفعيل المشتريات والقواسم والطاقات الكامنة بين الشعبين.
وليس خطأً إذا قلنا أن ما نعانيه في المنطقة من حالة الأزمة الحادة وفقدان الحل والمشروع في كثير من القضايا والمشاكل يرجع في أحد عوامل الأساسية إلى أن مايسود المنطقة من فكر ومنطق وطريقة الحياة ونماذج الدول والسلطات والتيارات السياسية العقيمة الغير قادرة على التطوير والتحديث ومواكبة التحديات المستجدة وغياب الديمقراطية أي ما نسميه بحداثة نظام الهيمنة العالمي الرأسمالي السائد في المنطقة، وهذا يرجع في احد اساسياته إلى ضعف التواصل والعلاقات بين شعوب المنطقة الأصليين أنفسهم وعدم وجود مشاريع و صيغ مثمرة وقوية لتحالفات وتكاملات ديمقراطية بين القوى الديمقراطية والفعالة والمتضررة من التدخلات الخارجية، لهذه الشعوب وخاصة الشعبين العربي والكردي نتيجة التدخلات الخارجية وتقسيمات المنطقة وتداعياتها في الحياة السياسية والفكرية والاقتصادية وعلى المنظومة الأمنية والعسكرية في مجمل المنطقة والدول العربية وبالتالي على مجمل التفاعل المأمول والمطلوب لمواجهة التحديات المشتركة.
القدرة على طرح الحلول:
ومن الصحيح الإشارة أن القوى التي تدخلت وطبقت التقسيم والتي تحافظ عليه بشكل يومي سواءً من القوى الدولية أو الإقليمية أو المحلية والتي تبحث عن طرق لاستمرار تصدرها للمشهد السياسي والاجتماعي والثقافي هي اكثر من تتهم القوى الديمقراطية والمجتمعية وحتى الدول التي تبحث عن التكامل وتعزيز العلاقات الصحيحة وطرح مشاريع التحالفات والوحدات الكلية الطوعية، بالانفصال والتقسيم والتبعية للخارج وكأن علينا ان نكون حراس للتقسيمات التي اوجدتها القوى الخارجية ولمصالحهم و هيمنتهم ونهبهم للمنطقة، حتى أصبح بعض الضائعين والمفعولين به يقولون لنحافظ على الموجود، خشية وخوفاً من القادم الأسوء وكأنه ليس امام المجتمعات والقوى والشعوب خيارات اخرى تستطيع اللجوء إليها إلا الرضوخ أو أن علينا أن ننتظر أن تقوم قوى خارجية أخرى بتقسيمنا والتفعيل بنا مرة ثانية وثالثة ونحن لاحول لنا في الوقت الذي كانت هذه المنطقة وشرقنا الأوسط من أهم حواض ومنابت وفاعلي الحضارة البشرية واليوم لسنا ببعيدين عن السياق السابق في طرح مايلزم منطقتنا من قبل أبنائها وأهلها وقواها المنظمة وصاحبة الإرادة والفكر الحر.
تغير الذات والتواصل المفتوح والخلاصة:
ولعدم الخلط وكأننا نحمل أخطاءنا للخارج وللواقع المفروض ونهرب من مواجهة حقيقة أنفسنا وشعوبنا والمنطقة وفعالياتنا السياسية والفكرية والثقافية، علينا تبيان القول كما تقول الآية” إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” وهنا تبدأ مهمة كل إنسان وفرد ومجتمع وشعب ومنظمة ومؤسسة ودولة ومنطقة وقواها التي تسعى للحرية والديمقراطية وللعدالة والتنمية المستدامة، وهذا واجب شامل ومسعى تكاملي لأهل المنطقة وباحثيها في البحث عن الحلول الديمقراطية التي تجمع قيمنا الأصيلة وثقافتنا التكاملية مع روح العصر وعلومه التقنية وإبداعاته العلمية كما تطرحه أحد المشاريع وهو مشروع الأمة الديمقراطية وكونفدرالية الشرق الأوسط الديمقراطي التي تستوعب وتحضن الكل مع عرقه ولونه وأثنيته ودينه وخصوصيته وثقافته من دون إنكار أو إبادة لأحد بل العمل لاجل إحياء كل الشعوب والمجتمعات والثقافات والخصوصيات في إطار تعايش مشترك و وحدة كلية ديمقراطية مجتمعية تحقق للمنطقة ولأهلها الكرامة والحرية والتنمية في تنسيق وتناغم بين الحرية الشخصية وحرية المجتمعات والشعوب وفق قيمها الأخلاقية والمجتمعية والقوانين المجسدة لها في صالح مجتمعات وشعوب ودول المنطقة اولاً وأخيراً ووفق توسيع ساحة حرية المجتمع وتضيق ساحة تدخل الدول. كما علينا التبيان أن إظهارنا لسلبية التدخلات الخارجية وممارساتها لا تعني أن لا يكون لدى المنطقة وشعوبها وقواها الفاعلة وحتى دولها، تواصل وعلاقات مع القوى المركزية في نظام الهيمنة العالمي وأدواتها الإقليمية لكن المعيار هي مصالح مجتمعاتنا وشعوبنا وتقليل تدخلاتهم في الشؤون الداخلية للمنطقة و بناء امكانيات لإجبار تلك القوى المركزية على أخذ مصالح أهل المنطقة بعين الاعتبار عبر تعزيز العلاقات بين شعوب المنطقة وخلق جبهة داخلية متينة ومتماسكة ودول ومجتمعات وشعوب قوية تقبل بالديمقراطية كنمط للحياة ومعالجة الأمور بعد إجراء التحولات الديمقراطية في دول المنطقة مع بقاء الحدود كما هي والمحافظة على الخارطة الموجودة ودمقرطة داخلها وتحولها الديمقراطي.
وهكذا نجد أن التعايش المشترك والحلول الديمقراطية وتجاوز التحديات المشتركة ومنها التدخلات الخارجية والتقسيمات وأدواتها ودويلاتها وحتى مواجهة الأزمات وتحدي الإرهاب والاحتلالات والهيمنة تحتاج إلى حتمية بناء منظومة علاقات صحيحة وقوية بين مجتمعات وشعوب المنطقة ودولها وفق ذهنيات مشتركة وارادات حرة تجسدها تركيبات مجتمعية واعية منتجة لإرادة حرة وجامعة وقوى فاعلة ديمقراطية ومجتمعية بعيدة عن الذكورية الدولتية وسلوك مستقر قادر على البناء في كافة مجالات الحياة وتجاوز كل العقبات والتحديات ومحقق لأخوة/ لأخوات الشعوب في المنطقة.