رندة نبيل رفعت
في خطوة تحمل أبعاداً استراتيجية عميقة، وجّه الرئيس الصيني شي جين بينغ دعوة رسمية لجامعة الدول العربية والدول الأعضاء لعقد القمة الصينية–العربية الثانية في العاصمة بكين عام 2026. هذه الدعوة، التي جاءت ضمن رسالة تهنئة إلى العراق بمناسبة استضافته القمة العربية الـ34، تعكس اتجاهاً صينياً متقدماً نحو ترسيخ شراكة طويلة الأمد مع العالم العربي، في وقت يشهد فيه النظام الدولي إعادة توزيع للأدوار والتأثيرات.
من المتوقع أن تتمحور أجندة قمة بكين 2026 حول ملفات استراتيجية تعكس أولويات التحالف الصيني–العربي في المرحلة القادمة، وعلى رأسها:
- تعزيز الأمن الاقتصادي المشترك وسط اضطرابات الأسواق العالمية، خاصة في مجالات الطاقة، الغذاء، وسلاسل الإمداد.
- التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كمحور للتعاون بين شركات صينية رائدة مثل Huawei وAlibaba، ودول خليجية تتجه نحو الاقتصاد الرقمي.
- مبادرة “الحزام والطريق” حيث تمثل الدول العربية محوراً لوجستياً حيوياً يربط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا.
- القضية الفلسطينية كملف رمزي ومبدئي، تُظهر فيه الصين دعمها للحقوق العربية، في مواجهة الانحياز الغربي.
لم تعد العلاقات الصينية–العربية محصورة في التعاون التجاري أو توريد الطاقة، بل تطورت إلى شراكة ذات طابع استراتيجي شامل. فالصين اليوم تُعد أكبر شريك تجاري لأغلب الدول العربية، حيث يتجاوز حجم التبادل التجاري أكثر من 430 مليار دولار سنوياً، مع طموحات للوصول إلى 500 مليار دولار بحلول 2030.
وفي مقابل التنافس الصيني–الغربي، تقدم الصين نموذجاً “لا تدخلياً” في الشؤون السياسية، ما يُكسبها قبولاً عربياً متزايداً، خاصة في دول تسعى لتقليل اعتمادها على المحور الأمريكي–الغربي.
قمة الفرص والتحولات
بكين 2026 ليست مجرد قمة دبلوماسية، بل منصة لإعادة رسم ملامح العلاقات الدولية من منظور الجنوب العالمي. الصين تسعى، من خلال هذه القمة، إلى بناء “تحالف مصير مشترك” مع العالم العربي، يتجاوز العلاقات الكلاسيكية نحو تعاون متعدد الأبعاد في الطاقة النظيفة، الأمن السيبراني، التبادل الثقافي، والتعليم والتدريب التقني.
في سياق التحولات الجيوسياسية الكبرى، تمثل هذه الدعوة الصينية تأكيداً على أن الشرق الأوسط لم يعد هامشياً في حسابات بكين، بل بات عنصراً مركزياً في مشروعها لعالم متعدد الأقطاب.
في المقابل، تُتابع الولايات المتحدة هذا التقارب الصيني–العربي بقلق متزايد، لا سيما مع تمدد نفوذ بكين في مناطق كانت تُعد تقليدياً ضمن نطاق النفوذ الأمريكي. واشنطن ترى في القمة المرتقبة عام 2026 محاولة صينية منظمة لـ”تدويل” الشراكة الصينية–العربية خارج الإطار الاقتصادي، عبر دخول مباشر في قضايا الأمن الإقليمي، التكنولوجيا الحساسة، وحتى إعادة تشكيل الرواية الجيوسياسية في المنطقة.
ويرى محللون أن الولايات المتحدة ستسعى في المرحلة المقبلة إلى إعادة تفعيل أدواتها الناعمة في المنطقة، من خلال مبادرات اقتصادية ومشاريع أمنية مضادة، لكنها تواجه واقعاً جديداً: العواصم العربية باتت تمارس سياسة تنويع الشركاء، وتوازن المصالح، بعيداً عن الاصطفاف الأيديولوجي القديم.
كما أن تجربة بعض الدول العربية في التعاون مع الصين أظهرت نتائج سريعة وملموسة، ما يمنح بكين نقاط تفوق على النموذج الغربي القائم على المشروطية السياسية والتدخل في ملفات الحوكمة والحقوق.
وفي هذا السياق، يقول البروفيسور وانغ يي وي، مدير مركز الدراسات الدولية في جامعة رينمين ببكين، إن القمة الصينية–العربية الثانية تمثل “تحولاً نوعياً في العلاقات بين الصين والعالم العربي، حيث تنتقل من مرحلة التعاون التجاري إلى بناء نموذج عالمي جديد قائم على التعددية، وعدم الهيمنة، والمصالح المتبادلة”.
ويضيف وانغ: “الصين لا تسعى لملء فراغ خلفته قوى أخرى، بل لخلق توازن دولي جديد يعكس واقع ما بعد الهيمنة الأحادية. العالم العربي شريك حضاري وتاريخي، وهو اليوم شريك استراتيجي في صياغة مستقبل عالمي أكثر عدالة وتنوعاً.”
ويرى وانغ أن أحد أهم أهداف القمة المقبلة سيكون التوافق على رؤية مشتركة حول الأمن الإقليمي، والتنمية المستدامة، وتحفيز دور الشركات الخاصة من الجانبين في مشاريع الطاقة والتقنية والبنية التحتية، بعيداً عن الأطر الغربية التقليدية.
من جانبه، يرى الدكتور مصطفى البرغوثي، الخبير في العلاقات الدولية والباحث في شؤون التوازنات العالمية، أن التوجه العربي نحو بكين ليس مجرد مناورة دبلوماسية، بل خيار استراتيجي ناتج عن تحولات جذرية في بنية النظام الدولي.
ويقول البرغوثي: “الدول العربية تدرك أن التبعية لقطب واحد لم تعد مجدية، لا سياسياً ولا اقتصادياً. الشراكة مع الصين توفر نمطاً جديداً من التعاون غير المشروط، يراعي الخصوصيات المحلية، ويعتمد على المصالح المتبادلة بدلاً من الإملاءات السياسية.”
ويضيف أن القمة المقبلة في بكين قد تشكّل فرصة للعرب لعرض رؤيتهم الموحدة تجاه قضايا محورية مثل فلسطين، وإصلاح منظومة الحوكمة العالمية، وحماية مصالح الجنوب العالمي في ملفي الطاقة والتكنولوجيا. ويرى أن العرب اليوم أمام لحظة تاريخية نادرة لإعادة تموضعهم كلاعب مستقل بين الشرق والغرب.