رأس السنة، نحن والآخر والتكامل الاقليمي

رأس السنة، نحن والآخر والتكامل الاقليمي

محمد أرسلان علي

أياماً قليلة تفصلنا عن الاحتفالات الضخمة لوداع عاماً كان مليئاً بالأحداث الكبيرة والتي كتب عنها الكثير ولا زال يكتب. سنودع عاماً ونستقبل آخر آملين أن يحمل في جنباته ولو قليلاً من الفرح والأمل لغدٍ أفضل مما كان. وبنفس الوقت أن هذه الاحتفاليات والمهرجانات التي تقام من أجل الاحتفال بمولد سيدنا المسيح عيسى، الذي كان وسيبقى رمزاً للسلام الأبدي على الأرض وأن المجد والخلود لن يكون لهما مكاناً على الأرض بل المجد والخلود فقط في السماء ولله والرب وحده. وكل من يبحث عن المجد والخلود في/على الأرض سيفشل ولن ينالهما البتة. وفي معمعة وحالات الابهار البصري للحفلات المقامة لرأس السنة وكمية المصاريف التي تصرف عليها، توضح لنا أننا لا زلنا نعيش على الشكليات ولا نهتم ولو قليلاً بالأساسيات التي تحقق عيشاً كريماً للانسان والذي من أجله ضحى سيدنا المسيح عيسى بنفسه ليكون قرباناً لخطايانا. إذ، بحالة الترف التي نراها في هذه الاحتفاليات وكمية الاشجار والأنوار المبهرة التي أعمت بصيرتنا وكأننا نصلب المسيح ثانية، في جهلنا في معنى الصلب والتضحية بالذات من أجل الآخر والسلام.
لربما كان من الأفضل أن نجعل مثل هذه الأيام محطة نتوقف عندها لنفكر ملياً، كيف أمضينا هذا العام وكيف كان وماذا سنفعل للعام المقبل؟ وهل في جعبتنا الجديد لنقدمه للعام الجديد او لا جديد فقط التكرار لحالة الظاهرة الصوتية في أننا سنعمل وسنقوم؟ وبالنظر لما مضى وإلى ما تعيشه أنظمتنا وشعوبنا ومجتمعاتنا، ليس من الصعوبة بمكان استشفاف أو تصور ما نحن مقبلين عليه. وبكلمة واحدة ومختصرة “لا جديد عندنا. التكرار هو سيد الموقف”. ربما هكذا سنقولها لشعوب العالم ودولها، أن لا تتوقعوا المزيد منا في تغيير ما نحن عليه، بل ننتظر منكم أن تمنحونا أو توجهونا كيف وإلى أين نسير ونتوجه؟! لأن الابتكار والابداع والاستكشاف لم نتعرف عليها بداخلنا وأننا اغتربنا عن هذه المصطلحات والمفاهيم، حتى بتنا نسخر منها. فقط الغرب والعالم الآخر هو من عليه الابتكار والتصنيع، وما علينا سوى الاستهلاك.
محطات يمكن التوقف عندها ولو قليلاً وبسرعة لمعرفة ماذا كان يحدث وإلى أين هم أو نحن متجهون. لطالما ظهر الكثير وكتب عمّا نحن بحاجة إليه من مراجعة للذات، ولتبقى كل كتاباتهم، لا تتعدى صيحة انسان يتألم في وادٍ غير ذي زرع ونفع (أنظمة استبدادية لا تسمع إلا صوتها ولا ترى إلا نفسها). حرب عالمية نعيشها بكل تفاصيلها المملة والقاتلة والمتسمة بالفوضى التي ضربت مختلف مناحي الحياة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية. الكل متخبط ولا يمتلك مشروعاً نهضوياً يغني وينعش تلك المناحي لإعادة بث الحياة فيها من جديد. سوى من يمتلك زمام المبادرة الفكرة والممتلكون لمشروع جديد يمتلكون القوة لتغيير العالم وخرائطه التي اعتدنا عليها منذ قرون.
أفول وزوال وظهور قوى وتيارات وامبراطوريات وحضارات، تبقى سمة من سمات قوانين ديالكتيك التطور الطبيعي للكون. وما نعيشه الآن لا يختلف كثيراً عمّا كان منذ القِدم. مرحلة انتقالية نمر بها وستكون مليئة بالمخاض والآلام لولادة جديدة، ولا نعلم إن كنا جاهزين لها أم ننتظر من السماء معجزة تنقذنا مما مقبلين عليه. وهي حالة ثقافية بكل تأكيد وما تطبعنا بها منذ قرون عدة، وهي العيش والاتكال على القدرية وأن كل شيء مكتوب وليس هناك داع لإتعاب النفس والبحث والتحليل لما سيكون غداَ. بعكس الأطراف الأخرى من العالم التي تسعى للتغيير دوماً وفق حالة تطور الوعي والفكر لديها وبالتالي العلوم والفلسفة والاقتصاد من جهة، والتطور التكنولوجي والثورة الرقمية التي وصلنا إليها والتي حولت العالم إلى قرية صغيرة وكذلك حولت الانسان إلى عبد وقزم صغير يقتات على فتات الآخرين من علوم ومعرفة.
أمريكا، لا زالت تحاول ان تبقى القوى المهيمنة الوحيدة والقطب الأوحد الذي يوجه العالم وفق ثقافتها، وتمتلك مشروعاً مستقبلياً وفق نظرتها، بأن القادم سيكون حليف الشرق الأوسط الجديد/الكبير. وعليه تعمل على زعزعة الاستقرار ونشر الفوضى في كل مكان تجلّ فيه. وضرب المقربين منها وفق أجنداتها وأطماعها، والذي بالنهاية يخدم مشروعها العازمة على تنفيذه، إن كان بشكل مباشر أو عن طريق الوكلاء والأدوات الاقليمية. وهو ما تفعله الآن في المشرق المتوسطي وأوكرانيا وجر روسيا لحرب استنزاف تقضي عليه من الداخل، وتايوان لجر الصين لحرب استنزاف كذلك الأمر وتحجيم قوتها الاقتصادية الصاعدة. وإذلال أوروبا واخضاعها أكثر من خلال بيعها السلاح والغاز بأسعار فلكية، تحت ترهيبهم بالبعبع الروسي والغاز والشتاء القارص. كل ذلك وهي تسير نحو الأفول، كما علمتنا قوانين الديالكتيك الطبيعية، أنه ليس ثمة قوة ومجد باقٍ للأبد. ولربما تحول مركز الهيمنة نحو المشرق ولتتخلى أمريكا عنها، لقوة صاعدة أخرى ولكن من هي واين تقع؟ بكل تأكيد لن تكون ايران وتركيا، ولا باكستان ولا الهند. ولربما وحسب المعطيات نكتب عن هذا الامر في قادم الأيام، ببعض التفاصيل التي توحي وتشي بما يتم التخطيط له من مشاريع ابراهيمية جديدة فوق جغرافيا “نيوم”. إنه بكل تأكيد استشرف ورؤية وليس تأكيد. لذلك نقول لربما…
ومن الطرف الآخر روسيا والصين اللتان تحاولان تدارك الانجرار لمستنقعات الغرب الاستنزافية وحالات والمراوغة التي تقومان بها، لربما أطالت من عمرها نوعاً ما، ولكن هل ستكونان القطب الآخر الندّ للغرب. هذا له حساباته الكثيرة، ولتبقى كلمة الفصل، كما كانت أثناء الحرب العالمية الثانية، للأسلحة الفتاكة المدمرة والتي ما هي إلا عبارة عن رسالة للآخرين. أي لربما كانت كلمة الفصل للقنبلة النووية التي ستنهي ضجيج وجعجعة الطواحين الفارغة، لتحدد شكل العالم الذي نحن بصدد الولوج إليه. كل التصريحات المتبادلة ما بين الطرفين (روسيا وأمريكا)، تنذر باستخدام القنبلة النووية، ولكن أين ومن سيبدأها، هذا ما ستخبرنا به قادم الأيام، ومن سيعلن أنه المجنون والمعتوه الذي يعتمد على القوة للوصول لمبتغاه وليقول: “أنا الطاغي والمستبد”.
أما عن حال مشرقنا المتوسطي الذي يعيش حالة من التردي والانحطاط من كافة النواحي، بسبب الأنظمة الفاشلة التي اعتلت كرسي السلطة فيها، لا يمكن انتظار الأحسن منها، بما أنها لم تقدم لنا سوى الأسوأ حتى الآن على أقل تقدير. فلا حل قريب للمستنقع الآسن الذي يعيشه العراق (قلب العروبة النابض) الذي هو فيه، رغم تعاقب الحكومات عليه وحالة الصراع المستمرة، ليبقى بلا قلب سليم. ولا حل قريب في سوريا (قلعة الصمود والتصدي)، بسبب تعنت النظام واصراره على عقليته ومنطقه البعثي أنه لا زال يحارب المؤامرة الكونية عليه. كذلك لا أمل في لبنان (باريس المشرق)، كي يتطهر من فئة الفاسدين والمفسدين التي تتربع في سدة الحكم باسماء طائفية وأثنية ومذهبية، تتقاتل فيما بينها كيدياً وتتفق مع بعضها فقط من أجل مصالحها، وليذهب لبنان إلى الجحيم، وهو ما كان. ولا يختلف الأمر كثيراً في اليمن (السعيد)، وليبيا (النظرية العالمية الثالثة)، عمّا تعيشه الدول السابقة الذكر. حالة التخبط والفلتان الفكري واستجداء الحل من قوى وأدوات مختلفة متصارعة هي بالأساس فيما بينها.
بينما النخبة في المشرق المتوسطي التي تحنّ لاستعادة المنطقة رونقها وقوتها وحضارتها، ليكتبوا الكثير عن العروبة الطبيعية والثقافية من جهة، والاسلام الحقيقي من جهة أخرى. ومنه يبدؤون الندوات والفعاليات المختلفة علّهم يجدون منفذاً لبريق أمل يظهر لهم من بعيد لينقذهم مما هم مقبلون عليه. بكل تأكيد الأنظمة الموجودة الآن والمتربعة على السلطة، هي السبب الأخير لما وصلت إليه المجتمعات من حالة التردي والفساد الذي تعانيه. ولكن علينا الاقرار بأن الأسباب أبعد من هذه الشخوص ومتعمقة بالتاريخ أكثر. كل حالة قطرية تعمل لوحدها للخروج من مستنقع الرمال المتحركة الذي هم فيه. ولا يملكون مشروع عام للمنطقة ولا مشروع جزئي لدولهم. سوى بعضاً من التمنيات والأمنيات للخروج من المأزق عن طريق تفعيل بعض الأدوات المستخدمة مسبقاً، وإن كانت باسلوب آخر.
لا يمكن فصل الكوني عن الجزئي ولا العكس، كِلاهما يتممان بعضهما البعض ليتشكل الكون بأبهى صوره وأشكاله الجميلة. ولا يمكن للخليجي أن يعيش هنيئاً، ما دام أخيه بالقرب منه يعيش الهزائم والقتل والدمار. وكذلك بالنسبة للعربي لا يمكن أن يخرج من مأزق الفساد والانحطاط الذي هو فيه، ما دام لا يفكر إلا بمصالحه فقط على حساب شعوب شقيقة ومجاورة له. التفكير السطحي المبني على المصالح التكتيكية فقط لا يمكن لها أن تعمر كثيراً. فالسياسة لا يمكن لها أن تستمر وتكون منتجة إن غلبت عليها المصالح فقط، بل ينبغي تطويعها بالأخلاق والمبادئ، حينها يمكن ان تكون السياسة أداة تسيير الشعوب والمجتمعات لحياتهم بكل سلاسة وأريحية.
الصمت، ربما يمكن اعتباره ذنب بكل معنى الكلمة. مثله كمثل الساكت عن الحق…. وفي عالم شياطين المصالح أو مصالح الشياطين، لا يمكن بناء مجتمع سليم وفردوس يكون فيها الكل يعاضد الكل، وكل حسب امكانياته وفكره ووعيه وليس حسب قوته. التكامل المجتمعي الاقليمي ما بين شعوب المنطقة من كافة النواحي هو المخرج الوحيد على الأقل في راهننا، ليكون خطة يمكن البناء عليها للخروج مما نحن فيه. التكامل ما بين شعوب المنطقة بكل مسمياتهم الأثنية والقومية والطائفية والمذهبية، والمبني على احترام الآخر كما هو، وليس كما أريد “أنا”. فلسفة يمكن البناء عليها مستقبلاً أفضل لأجيالنا القادمين. الفردانية والانتهازية والأنا، لا يمكن لها أن تكون أرضية لبناء التكامل الاقليمي ما بين شعوب المشرق المتوسطي. إذ، ينبغي على مثقفي هذه المنطقة التي يخرجوا من القوقعة النخبوية التي هم فيها، ويتقربوا من المجتمع والشعوب المجاورة لهم ليتعرفوا أن أكرمهم عند الله اتقاهم، وليسوا ممن يرفعون شعار “وأنا مالي”.
الشعب الكردي يُقتل مقاتليه وشعبه بالسلاح الكيمياوي المحرم دولياً وأخلاقياً ونحن في القرن الحادي والعشرون، لا يمكن أن نتكئ على عكاز الصمت والحياد، كي لا نستفز الخصم. بل على الشعوب أن تقفئ عيني المستبد الذي يحلل ويجيز لنفسه استخدام مثل هذه الاسلحة لقتل شعب وحرمانه من حقه في العيش الكريم. ستستمر مقاومة الشعب الكردي لبناء مستقبله وفق الفلسفة التي يؤمن بها في العيش المشترك ما بين المجتمعات على أساس أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية، والمكملة لفكرة التكامل الاقليمي في المشرق المتوسطي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: