القاهرة – رندة رفعت
بعد أيام قليلة من الافتتاح التاريخي الذي حبست له الأنفاس، يواصل المتحف المصري الكبير خطف أنظار العالم، كأكبر صرح حضاري وثقافي في التاريخ الحديث، وأيقونة معمارية تجمع بين عبق الماضي المصري الخالد وروح المستقبل المشرق.
يقف المتحف شامخًا على هضبة الجيزة، على بُعد خطوات من أهراماتها الثلاثة الخالدة، في مشهد يختزل آلاف السنين من العظمة، حيث تلتقي أحجار الفراعنة القديمة بأعمدة الحداثة الزجاجية في لوحة فريدة ترمز لتجدد مصر الدائم عبر العصور.
البداية.. من بوابة الحضارة إلى قلب التاريخ
منذ اللحظة الأولى لدخول الزائر عبر البوابة الرئيسية، يستقبله تمثال الملك رمسيس الثاني في البهو العظيم — رمز القوة والعظمة المصرية. يقف شامخًا وسط قاعة تمتد على ارتفاع 24 مترًا، يحيط به ضوء طبيعي مهيب يخترق الواجهة الزجاجية المائلة، وكأنه يطلّ على الأهرامات ليتبادل معها التحية عبر الزمن.


















على يمين البهو، تُطلّ السلالم الملكية التي تقود إلى الطابق العلوي، حيث تصطف عشرات التماثيل الملكية الضخمة في مشهد يجسد رحلة تطور الفن والنحت المصري القديم عبر أكثر من 3000 عام.
وعلى اليسار، تمتد قاعات العرض المؤقت والمكتبة الأثرية والمركز الثقافي الذي صُمم ليكون منبرًا للبحث والتعليم والتفاعل الحضاري العالمي.
قاعات لا تنتهي من الدهشة
يضم المتحف المصري الكبير أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، تُعرض بأسلوب تقني حديث يجمع بين الإضاءة الذكية، والعرض التفاعلي، والوسائط الرقمية متعددة اللغات.
ويُعد جناح توت عنخ آمون جوهرة التاج في هذا الصرح، إذ تُعرض مقتنياته لأول مرة كاملة في مكان واحد منذ اكتشافها في وادي الملوك عام 1922.
تبدأ الجولة بقاعة “رحلة الملك الذهبي”، حيث تُعرض عربته الملكية المذهبة، وعرشه الشهير المصنوع من الخشب المذهب والعاج، مرورًا بتماثيله الصغيرة وأوانيه الجنائزية، وصولًا إلى قناع الذهب الشهير الذي يختصر عظمة الحضارة المصرية في نظرة واحدة لا تُنسى.
من عصور ما قبل الأسرات إلى المجد البطلمي
لا يقتصر المتحف على الفرعونية فحسب، بل يضم أقسامًا تمتد عبر عصور ما قبل الأسرات، والعصرين اليوناني والروماني، وحتى بدايات الحقبة القبطية والإسلامية، ليحكي تاريخ الإنسان المصري منذ أن خطّ أول أثر على الطين وحتى شيّد الأهرامات وصاغ أعمدة المعابد.
في قاعة الدولة القديمة، يشاهد الزائر تماثيل خوفو وخفرع ومنكاورع في وضع مهيب، وفي قاعة الدولة الحديثة، تُعرض أدوات الحرب والعربات الملكية، وأسلحة رمسيس الثاني، وقطع من معركة قادش الشهيرة، بينما تبرز قاعة الدولة الوسطى جمال الدقة الفنية والرقي الحضاري الذي سبق زمانه.
لا يقتصر المتحف على العرض فقط، بل يضم أكبر مركز لترميم الآثار في العالم، حيث يعمل به مئات الخبراء المصريين والدوليين على حفظ كنوز لا تُقدر بثمن. ويُعد المركز أيضًا منصة بحثية وتعليمية متكاملة لتدريب الأجيال الجديدة من علماء الآثار والمتخصصين في علوم المتاحف، مما يجعل المتحف المصري الكبير ليس فقط مخزنًا للماضي، بل مدرسة للمستقبل.
في قلب المتحف المصري الكبير، يشكل متحف الطفل تجربة تعليمية وإنسانية فريدة، صُممت لتخاطب عقول الأجيال الجديدة وفضولهم الطبيعي نحو المعرفة. فهنا لا يكتفي الطفل بالمشاهدة، بل يعيش التاريخ بلمساته وصوته وضوئه، من خلال منظومة عرض تفاعلية تستخدم أحدث تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي.
يأخذ المتحف الصغار في رحلة زمنية شيقة عبر عصور مصر القديمة، تبدأ من نهر النيل الذي يرسم الحياة على الجدران، إلى الأهرامات التي تُبنى أمامهم بخطوات افتراضية، ثم إلى ورش تعليمية تتيح لهم تجربة الكتابة بالهيروغليفية أو محاكاة عمليات التنقيب عن الآثار.
ويضم المتحف أيضًا معارض مصغرة ووسائط تعليمية رقمية تُبسّط المفاهيم التاريخية والعلمية بأسلوب ممتع، ليجمع بين التعليم والترفيه والإبداع، ويغرس في نفوس الأطفال قيمة الانتماء والفخر بالحضارة المصرية العريقة.
إن متحف الطفل ليس مجرد جناح مخصص للصغار، بل هو استثمار في وعي المستقبل، ورسالة تؤكد أن المتحف المصري الكبير لم يُبنَ فقط ليحفظ التاريخ، بل ليُلهم أجيالًا جديدة تواصل صناعة المجد.
ولأن مصر تدرك أن حضارتها ملك للإنسانية جمعاء، فقد أُنشئ المتحف ليكون منارة للتبادل الثقافي العالمي، حيث يُستقبل الزوار من كل قارات العالم بمزيج من التقنيات الحديثة، والإرشاد الرقمي متعدد اللغات، والبرامج التفاعلية للأطفال والباحثين والسياح، ليعيش كل زائر تجربة حسية ومعرفية استثنائية تُعيد صياغة مفهوم المتاحف في القرن الحادي والعشرين.
مصر تكتب فصلًا جديدًا من الخلود
مع كل خطوة داخل قاعات المتحف، يشعر الزائر أن الزمن يلين أمام عظمة المصري القديم، وأن الحاضر يمدّ يده للماضي في حوار لا ينتهي بين الإنسان والتاريخ.
فالمتحف المصري الكبير ليس مجرد مشروع ثقافي، بل إعلان مصري جديد عن الريادة، وعن مسؤولية مصر التاريخية في حفظ ذاكرة الإنسانية.
إنه تحفة القرن التي جعلت العالم يعيد تعريف مفهوم الحضارة، وكتبت لمصر فصلاً جديداً في سجل الخلود.
