كتبت – رندة نبيل رفعت
في مشهد تاريخي مهيب، عادت أنظار العالم إلى خليج أبو قير شرق الإسكندرية، حيث شهدت مصر حدثاً فريداً من نوعه تمثل في انتشال ثلاث قطع أثرية ضخمة من أعماق البحر المتوسط، لأول مرة منذ ربع قرن. جاء ذلك خلال فعاليات “التراث الثقافي المغمور بالمياه”، بحضور وزير السياحة والآثار شريف فتحي، ومحافظ الإسكندرية الفريق أحمد خالد حسن سعيد، وقائد القوات البحرية، وقائد المنطقة الشمالية العسكرية، وعدد من الشخصيات البارزة في مجال الآثار والدبلوماسية.





بدأت قصة المدن الغارقة في أبو قير في تسعينيات القرن الماضي، حين بدأت بعثات مصرية ودولية أعمال المسح الأثري تحت الماء، والتي كشفت لاحقاً عن مدن كاملة غمرتها مياه المتوسط مثل كانوب، هيراكليون، وتونيس.
هذه المدن كانت مراكز تجارية ودينية مزدهرة منذ العصر الفرعوني مروراً بالعصر البطلمي والروماني وحتى البيزنطي.
ومنذ توقيع مصر على اتفاقية اليونسكو لحماية التراث الثقافي المغمور بالمياه عام 2001، تعززت جهود التنقيب، لكن عمليات الانتشال الكبرى توقفت عام 2000 لتعود اليوم بقوة وسط تعاون غير مسبوق بين وزارة السياحة والآثار، المجلس الأعلى للآثار، مفتشي الآثار المصريين، القوات البحرية، والهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
■ القطع المنتشلة في 2025:
خلال الفعالية الأخيرة، تم انتشال ثلاثة تماثيل ضخمة:
- تمثال ضخم من الكوارتز على هيئة أبو الهول يحمل خرطوش الملك رمسيس الثاني (العصر الفرعوني الحديث – القرن 13 قبل الميلاد).
- تمثال من الجرانيت لشخص مجهول من أواخر العصر البطلمي (القرن الأول قبل الميلاد)، مكسور الرقبة والركبتين.
- تمثال من الرخام الأبيض لرجل روماني من طبقة النبلاء (القرن الثاني الميلادي).
هذه القطع تضاف إلى رصيد ضخم من المكتشفات السابقة التي لا تزال تحت البحر، مثل تماثيل الملكة كليوباترا، تماثيل الإله حابي، الأعمدة الرومانية، وأعداد كبيرة من الأمفورات والعملات.
■ المدن الغارقة في أبو قير:
- هيراكليون: الميناء التجاري الأكبر لمصر القديمة قبل الإسكندرية.
- كانوب: مدينة دينية شهيرة بمعابدها وأعيادها.
- تونيس: مركز تجاري بحري ارتبط بالتبادل مع اليونان وروما.
إلى جانب هذه المدن، أظهرت أعمال المسح الأثري مؤشرات على وجود مدينة رومانية متكاملة المرافق غرب أبو قير، تضم معابد وصهاريج ومراسي وأحواض أسماك، ما يرجح أنها كانت امتداداً لمدينة كانوب الشهيرة.
قاد فريق من مفتشي الآثار بالمجلس الأعلى للآثار عملية الكشف تحت الماء، مستخدمين تقنيات حديثة في الغوص والمسح الجيوفيزيائي. ومن أبرز الأسماء المشاركة:
- د. محمد إسماعيل خالد – الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار.
- د. أحمد رحيمة – معاون الوزير للتنمية البشرية.
- أ. يمنى البحار – مسؤولة ملف الآثار المغمورة.
أكد د. خالد أن الاكتشاف الحالي يمثل “خطوة محورية” ضمن مشروع قومي لتطوير خليج أبو قير، مشيراً إلى أن هناك سفينة أثرية كاملة سيتم الإعلان عنها قريباً بعد انتهاء الدراسات العلمية.
لم يكن هذا الإنجاز ليتم دون التعاون الاستثنائي مع القوات المسلحة. فقد وفرت القوات البحرية الدعم اللوجيستي وأعمال التأمين، فيما تولت الهيئة الهندسية جوانب تقنية في عمليات الرفع والنقل. وقد وجه وزير السياحة والآثار شريف فتحي شكره لهم قائلاً:
“إن ما تحقق اليوم هو ثمرة تعاون مؤسسات الدولة، ورسالة بأن مصر قادرة على صون تراثها وتعزيز مكانتها السياحية العالمية.”
في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، تعزز الاهتمام بالمشروعات القومية الكبرى في الإسكندرية، مثل قطار أبو قير وتطوير الميناء، إلى جانب إدراج ملف المدن الغارقة ضمن أولويات السياحة الثقافية.
كما تعمل وزارة السياحة والآثار حالياً على دراسة إنشاء متحف تحت الماء في أبو قير، ليتيح للزوار من مصر والعالم مشاهدة المدن الغارقة في بيئتها الطبيعية، وهو مشروع يُتوقع أن يكون الأضخم من نوعه في المنطقة.
هذا الحدث يعيد مصر إلى صدارة الاهتمام العالمي بالآثار المغمورة، ويضع الإسكندرية مجدداً على خريطة السياحة الثقافية والبحرية. فالمواقع المكتشفة لا تروي فقط قصة مصر القديمة، بل تكشف عن تفاعلها مع الحضارات اليونانية والرومانية والإسلامية، ما يعكس هوية حضارية متفردة تمتد لآلاف السنين.