رندة نبيل رفعت
كلمة السفير محمد سفيان براح، سفير الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية لدى جمهورية مصر العربية، والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية
في مثل هذا اليوم، قبل ثلاثة وستين عامًا، دوّت صرخةُ الحرية في سماء المغرب العربي، لتُعلن ميلاد الجزائر المستقلة، وتُسطر لحظة فارقة في التاريخ الإنساني، عنوانها: الشعب الذي لا يُهزم حين يُراهن على الكرامة.
الخامس من يوليو ليس مجرّد عيدٍ وطني، بل هو تجسيد حيّ لإرادة أمةٍ رفضت الاستعمار، وصنعت استقلالها بدماء مليون ونصف المليون شهيد. واليوم، تستعيد الجزائر تلك اللحظة الخالدة، تحت شعارٍ يلخص روح الأمة: “جزائرُنا… إرثُ الشهداء ومجدُ الأوفياء”.
إنها ليست ذكرى فقط، بل وقفة تأمل وتجدّد، نستحضر فيها عظمة الثورة الجزائرية، ونستقرئ من خلالها تحديات الحاضر ومسؤوليات المستقبل.
وإنّ الوفاء لذلك الإرث ليس شعارًا يُرفع، بل مشروعٌ وطنيٌّ يُبنى، تقوده دولةٌ تُحسن الإصغاء لنبض شعبها وتملك الإرادة لصناعة تحوّل حقيقي.
وقد شاءت السنن التاريخية أن تكون الجزائر، منذ لحظة انتصارها، صوتًا للحرية ومنبرًا للقضايا العادلة.
ولم يكن ذلك ليحدث لولا القيادة الرشيدة لفخامة الرئيس عبد المجيد تبون، الذي أعاد بثّ الروح في المبادئ المؤسسة للدولة الجزائرية الحديثة، فجعل من السيادة الوطنية خطًا أحمر، ومن كرامة المواطن بوابةَ الشرعية.
وتتجلّى هذه الرؤية في الأداء الدبلوماسي النشط الذي تقوده الجزائر على مختلف الساحات، ولا سيما في مجلس الأمن، حيث ترفع صوت الجنوب العالمي، وتُدافع بشجاعةٍ وثبات عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وتُعيد الاعتبار لمنظومة الشرعية الدولية.
واليوم، إذ نُحيي ذكرى الاستقلال، لا يغيب عن وعي الجزائر الرسمي والشعبي ما يعيشه العالم العربي من محن، وعلى رأسها الجرح النازف في فلسطين، حيث يواجه الشعب الفلسطيني عدوانًا يتجاوز حدود الوحشية، ليبلغ حدّ الإبادة الجماعية الممنهجة.
وهي مأساة تُحرج صمت العالم، وتضع النظام الدولي أمام مرآة السقوط الأخلاقي.
ووسط هذا المشهد المتصدّع، تبرز مصر الشقيقة، كما عهدناها، في صدارة الصفوف المدافعة عن حقوق الشعوب، بمواقف متزنة وشجاعة يقودها فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي يُجسّد بممارسته السياسية الرصينة عمق التزام مصر التاريخي بدعم القضايا العربية العادلة.
ومثلما وقفت مصر بالأمس مع الثورة الجزائرية، فهي اليوم سندٌ لقضية فلسطين، شريكٌ في السعي نحو استقرارٍ عربي شامل.
إنّ هذا التلاقي في الرؤية والمسؤولية بين الجزائر ومصر ليس صدفة، بل هو امتداد طبيعي لعلاقةٍ تأسست في ميادين النضال، وتترسخ اليوم في معادلات السياسة والاستراتيجية.
فالبلدان يدركان جيدًا خطورة المرحلة، وما تُواجهه أمتنا من محاولات ممنهجة لإعادة تفكيكها عبر إثارة النزاعات وتأجيج الهويات القاتلة.
إن الجزائر ومصر، برؤيتيهما المستندتين إلى السيادة والوحدة، تُشكّلان ركيزتين في معادلة الأمن العربي، وقاطرتين للعمل المشترك الذي يتجاوز الشعارات نحو الفعل المؤسسي، والتكامل الاقتصادي، والتحصين الثقافي، وإعادة الاعتبار للإنسان باعتباره أساس البناء والاستقرار.
لقد علّمتنا الجزائر أن الحرية تُنتزع، وأن السيادة لا تُساوَم، وأن الوفاء لدماء الشهداء يبدأ بتحصين الداخل، وبناء المؤسسات، وصياغة مشاريع تنموية لا تنفصل عن الهوية.
وهذا ما يُترجم اليوم عبر مسار تنموي متكامل يقوده الرئيس تبون، قائم على العدالة الاجتماعية، والابتكار الاقتصادي، والانفتاح الواعي على العالم دون التفريط في الثوابت.
في هذا اليوم المجيد، نُحيّي تضحيات الأبطال، ونُجدّد العهد على أن تبقى الجزائر قلعةً للصمود، ومنارةً للاستقلال، ونموذجًا لدولة تنتمي للمستقبل دون أن تتنكر لماضيها.
المجد والخلود لشهداء الجزائر الأبرار، والخزي والعار لكل من راهن على كسر إرادة الشعوب.
وحفظ الله الجزائر ومصر، وأبقى بينهما شعلة التضامن متقدة، تضيء درب الأمة نحو الكرامة والسيادة والوحدة.