بين الطائر والطائرة

بين الطائر والطائرة

دائمًا ما تجرد الحروب الإنسان من إنسانيته. تعيده إلى نقطة الصفر. فالحرب لا قلب لها، لا عقل لها. الحرب بلا ضمير. فقط الدمار والقتل.

دمار الطبيعة، ودمار العقل. الطبيعة التي لا تعني إلا الخير، والعقل الذي لا يعني إلا صون هذا الخير وتنميته.

ومع ذلك فكثيرًا ما نجد العقل في مواجهة الطبيعة، بل وكثيرًا ما نجده في مواجهة نفسه، فيدمر نفسه بنفسه.

فالطائر من خَلق الطبيعة، والطائرة من خَلق الإنسان. وشتان ما بين الاثنين، فهذا يملأ الدنيا غناءً، وتلك تملؤها خرابًا ودمارًا.

والطائر يبني ويعمر، فحتى لو هُدم عشه مرات ومرات، فإنه يعيد بناءه بلا فتورٍ أو كللٍ. والطائرة كتلة من المعدن لا قلب له ولا حس ولا شعور.

إنه يَصهر ويُذيب ويحطم كل ما يقع في مَرْمَى ضرباته.

وقِسْ على ذلك الصواريخ بطُرزها، وأنواعها المختلفة حيث تَفَنن الإنسان في اختراع آلاتها التدميرية التي لا تميز حجرًا من بشرٍ. لا، بل هي تميز وتحدد أهدافها بدقة طبقًا لما يُراد بها أو يُراد منها.

والفن هو طائر السلام الذي تُغنِي الشعوب بصوته في أوقات السلم والحرب. ومع ذلك فقد يتحول هذا الصوت، في الحرب، إلى سلاحٍ يدافع به الفنان عن نفسه وعن بلده. ولكنه السلاح الذي يُشفي.

الضحية من أوجاعها وآلامها، يحمل صرختها في لوحة، أو قصيدة، أو تمثال، أو رقصة أو غنوة، أو حتى دمية صنعتها أيدٍ لا تعرف إلا أن تغزل وتحبك وتضم الخيط على الخيط. الفنون شرور الحرب الجميلة:ما نعرفه أن الفن قد يزدهر في لحظات الشر الكونية هذه.

ربما لأن هذه اللحظات تُذكر الإنسان بنعمة الحياة التي يوشك أن يفقد الإحساس بها في زحمة حياته اليومية، وتُذكره بنعمة السلم التي ربما يضيق بها وسط روتين العمل وضغوطه. ولاشك أن الحرب الروسية الأوكرانية مُفْتَتح الحروب في أيامنا هذه.

ومع اقتراب مرور عامين على نشوبها، لابد وأن تكون فنونًا متعددة قد ظهرت وازدهرت في ظل هذه الحرب. ولابد وأن يكون، بالمثل، قد دُمر تراتُ، أو ضاع أو فُقد إلى الأبد.

لابد وأن يكون شر الحرب قد طال هذا السلاح الجميل فغيّره وبدله وألقى عليه بظلاله. ولو أردنا أن نُلقي نظرة على بعض التأثيرات التي تركتها الحرب على الفن في أوكرانيا مثلاً.

فسوف نجد أن الحرب قد أججت هناك أنواعًا من الفنون التي لعبت دورًا مهمًا في إبراز الهوية الأوكرانية على نحو لم يكن معروفًا في أوقات السلم. فقد ذاعت مؤخرًا أغنية تسمى «ستيفانيا» صُورت بين أنقاض مبانٍ خلفتها الضربات الروسية.

وقد رفعت الأغنية من حرارة الشعور الوطني الأوكراني على نحو غير مسبوق. فالمرأة التي تظهر، في الأغنية، واقفةً بين الأنقاض، وهي تحاول النجاة بطفلتها الصغيرة زادت من الشعور بوطنٍ يجد الجميع السلام والآمان في كنفه. وأبرزت، خلال ذلك، دور المرأة في هذه الحرب.

لقد لامست الأغنية الشعور الإنساني في كل مكان، وتجاوب معها الملايين عبر العالم. وباتت فرقة «كالوش» التي أدت الأغنية من أنجح الفرق، وأكثرها شهرة في العالم.

وأصبحت الأغنية، التي ربما لم تكن لتنجح مثل هذا النجاح في غير أوقات الحرب، علامة على الهوية الأوكرانية التي تتعرض لاختبار قاسٍ لم تشهده من قبل. لكن أغنية «أوه، الويبرنوم الأحمر في المرج» أصبحت في عام 2022م، حرفيًا، الأغنية الوطنية للشعب الأوكراني على وقع الحرب مع روسيا. والأغنية، أصلاً، أغنية قديمة كُتبت كلماتها عام 1914م. وبمجرد أن أعاد مطرب فرقة «بومبوكس» الشهير أندري خليفنيوك غناء المقطع الأول منها بصوته حتى ذاع صيتها وانتشر وكأنها ما كُتبت إلا الآن، ومن أجل لحظة الحرب التي عادة ما تَقوى فيها الروح الوطنية وتشتد.

ثم حصلت الأغنية على قبلة حياة أخرى عندما أعادت فرقة «بينك فلويد» الشهيرة توزيعها، واشتركت في أدائها مع المطرب الأوكراني. فقفزت الأغنية، بهذه الخطوة، قفزة هائلة خارج حدود بلدها.

وحصل فيديو أندري خليفنيوك، حيث يؤديها في ساحة «صوفيا» في كييف، على آلاف المشاهدات داخل وخارج أوكرانيا.

أيضًا عشرات القصائد الأوكرانية التي وُلدت منذ انطلاق الحرب صَوَّرت، ربما للمرة الأولى، بلاغة الشعور بالذات وبالوطن في مواجهة مالم يكن معروفًا على نحو واضح من قبل بالاستعمار الروسي.

بعض هذه القصائد كُتب في مخابئ تحت الأرض، وبعدها الآخر كتبها شعراء وهم على الجبهة.

وفي كل الأحوال، فإن ما قامت الحرب من أجل محوه، الهوية الأوكرانية، قد أصبح أقوى وأكثر بروزًا من أي وقت مضى.

على سبيل المثال قصيدة «الدبابات بدلاً من الزهور» لبوريس خيرسونسكي التي تسخر من الحب على الطريقة الروسية «الركبتان متباعتان والدماء على الملاءة هذا هو الحب». سَخرت القصيدة من هشاشة ما يمكن أن يُسمى بعلاقات الجيرة والإخوة والتاريخ المشترك، وأبرزت، بدلاً من ذلك، علاقة الوحش بالفريسة بين الطرفين.

أيضًا فيلم «قُداس الحواجز المضادة للدبابات» للمخرج دميترو سوخوليتكي سوبتشوك.

عبارة عن فيلم وثائقي قصير يدور حول ثلاثة أوكرانيين قاموا قبل الحرب العظمى بعمل منحوتات دينية لمجتمعات الروم الكاثوليك، والآن يصنعون حواجز معدنية مضادة للدبابات. حيث تبدو الهياكل المعدنية، لو نظرنا إليها من زاوية معينة، مثل صلبان.

ويبين الفيلم كيف تتقاطع هذه الأبعاد وتتداخل: الحرب والدين والفن.

يقول المخرج عن هذا الفيلم: «في رأيي، هذه الصورة تحكي، بطريقة رعوية ودقيقة إلى حد ما، عن الشعور بالوحدة الذي يحدث الآن في مجتمعنا، عندما نواجه التهديد والعدو».

تراثنا في أوكرانيا:لكن في مقابل بروز فنون جديدة. وفي مقابل التغيرات التي تلحق بالفن في ظروف كهذه، فإن تراثًا ماديًا وفنيًا متوارثًا قد يُدمر أو يُتلف أو يضيع إلى الأبد.

فإن المباني التاريخية أو الدينية أو الأثرية التي تدمرها آلة الحرب تغير هوية المكان إلى الأبد، وتمحو طبيعته الحضارية.

لاشك أن التراث، المادي أو الأدبي أو الفني، ينتمي بالإضافة إلى انتمائه إلى موطنه الأصلي، للثقافة الإنسانية ككل.

فهو ليس فنًا إلا لأنه يستطيع التعبير عن الجذر الإنساني الذي يجمعنا ككل، ويوحّدنا في معاناتنا في هذا العالم.

وبالتالي يصح أن نتحدث عن التراث في أوكرانيا باعتباره تراثًا إنسانيًا ينتمي إلينا مثلما ينتمي إلى الشعب الأوكراني الذي أبدعه.

على سبيل المثال فقد دُمر متحف التاريخ في إيفانكيف في أوكرانيا في 25 فبراير 2022م ودُمرت معه معظم لوحات الفنانة الأوكرانية ماريا بريماتشينكو بلا رجعة.

وهي إحدى الفنانات الشعبيات اللائي يلقين تقديرًا محليًا وعالميًا بسبب خصوصية لوحاتها الفطرية البسيطة.

فنانون في ساحة المعركة:هل يستطيع الفنان أن يحارب؟ هل يستطيع أن يحمل السلاح هو الذي اعتاد أن يُمسك بالفرشاة أو القلم أو الكاميرا أو الميكروفون؟

ما نعرفه أن الفنان أبعد ما يكون عن أن يحمل سلاحًا، أو أن يدمر أو يقتل. هذا صحيح، ولكن من الصحيح أيضًا أن الفنان قد يضطر إلى الدفاع عن أسرته فيموت دونها، أو يضطر إلى الدفاع عن أرضه فيموت دونها أيضًا، أو يضطر إلى الدفاع عن بلده فيقتل أو يُقتل دونها.

فذلك مما لا يتعارض أبدًا مع ميل الفنان دائمًا إلى السلم والسلام، وحبه للإبداع في أجواء من الود والمحبة. لذلك لا غرابة أن أنخرط الكثير من الفنانين رجالاً ونساءً في الدفاع عن بلدهم (موسيقيون ومخرجون وممثلون وكُتَّاب) انضموا إلى الجبهة.

فمنهم يفهين فولودشينكو (عضو في فرقة «كورغان وأغريغات» أندري خليفنيوك، أوليج ميخايليوتا (فرقة TNMK)، سيرجي فاسيليوك (فرقة «ظل الشمس»)، أوليج سينتسوف (مخرج)، أوليكسي تريتينكو (ممثل)، أرتيم تشيخ (كاتب)، فاليري ماركوس (كاتب)، ماكس بارسكيخ (مغني)، أولينا جيراسيميوك (شاعرة وكاتبة)، يوركو يورتشينكو (موسيقي)، ديزيل (موسيقي)، يليزافيتا زاريكوفا (موسيقية وشاعرة) وغيرهم الكثير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: