لأول مرة بعد رحيله: يُنشر النص العربي لحوار مع الناقد الروائي العراقي (د. نجم عبدالله كاظم)

لأول مرة بعد رحيله: يُنشر النص العربي لحوار مع الناقد الروائي العراقي (د. نجم عبدالله كاظم)

حاوره: د. سالار التاوْكوزي
في هذا الحوار المفصل الذي أجريناه عام 2016 – من وجهة نظر تاريخية وسوسيولوجية وثقافية – مع الناقد العراقي الكبير (د.نجم عبدالله كاظم) نناقش مسيرة الرواية العراقية ولاسيما بعد عام 2003. كما نثير موضوع الهامش والآخر والمكونات العرقية والدينية في البلد، مع الالتفات إلى التجارب الروائية الجديدة ومن ضمنها التجريب في الرواية العراقية النسوية، وغيرها من الموضوعات المتعلقة بواقع المجتمع العراقي الراهن مثل: العنف والطائفية والتابوهات السياسية والدينية والاجتماعية.

  • برأيك متى بدأ ربيع الرواية العراقية المعاصرة ؟
    من الطريف أن يأتي سؤالك هذا في وقت ازدادت فيه الأصوات التي لا ترى في مسيرة الرواية العراقية غير الخريف، الذي كما هو موجود في كل سنة، هو موجود في مسيرة رواية كل بلد، ولا ترى لا من ربيع ولا شتاء ولا صيف. الحقيقة هذه أصوات في غالبها الأعم تأتي من أناس غير مستعدّين مسبّقاً للاعتراف بالرواية العراقية، ولا بروايةٍ عراقية، وأنا أختلف مع هؤلاء لا بنسبة خمسين أو سبعين بالمئة مثلاً، بل مئة بالمئة.
    على أية حال أعود إلى سؤالك فأقول: إذا كان المقصود بربيع الرواية هو الأعمال المتميّزة، فأقول هناك أعمال سأستعير منك كلمة ربيع لأقول إنها ربيعية نسبياً حين صدرت وشكّل كلّ منها ما يشبه الألق وسط فترة أو مرحلة في مسيرة الروائية غير مثمرة، كما هو حال “جلال خالد”- 1928، و”مجنونان”- 1939، و”اليد والأرض والماء”- 1948، وهناك ما هي ربيعية بشكل مطلق أعني على امتداد مسيرة الرواية العراقية، كما هو حال “الرجع البعيد” لفؤاد التكرلي، التي أتجرّأ فأقول إنها تمثل قمة الرواية العربية على امتداد تاريخها.
    أما إذا قصدتَ بربيع الرواية العربية المرحلة الأكثر تألقاً وإنجازاً، عدداً ونوعاً، فأقول إنني كنت في دراستي لمسيرة الرواية العراقية من التأسيس إلى سنة 1980 قد اعتبرت المدة الممتدة من 1966 إلى 1980 الحقبة الذهبية للرواية العراقية. لماذا قلت ذلك؟ لأنها، أولاً، بدأت بصدور “النخلة والجيران” لغائب طعمة فرمان، وثانياً، روايةً متكاملة من ناحية توفّرها على متطلبات الرواية الفنية، عناصرَ واشتغالاً وموضوعاتٍ ومعالجاتٍ وحداثةً، ولأن تلك الحقبة، ثانياً، شهدت صدور بضعة أعمال تلت “النخلة والجيارن”، لفرمان ولغيره عزّزت الريادة الفنية، وكما توالت، ثالثاً، الأعمال عدداً ونوعاً بالصدور، مشتملة على بعض ما لا زالت تُعد إنجازات، بكل ما تعنيه هذه الكلمة، مثل “خمسة أصوات” لفرمان، و”الوشم” لعبد الرحمن مجيد الربيعي وقد نضيف إليها روايتَي الفلسطيني العراقي جبرا إبراهيم جبرا “السفينة” و”البحث عن وليد مسعود”، وإنها، رابعاً، شهدت صدور أول رواية فنية نسوية هي “السابقون واللاحقون” لسميرة المانع، مع ما قد نسجله عليها، كما أن تلك الحقبة، أخيراً، بدأت بإحدى قمم الرواية العراقية، نعني “النخلة والجيران”، انتهت عام 1980 بإحدى قمم الرواية العراقية، بل العربية، نعني “الرجع البعيد”.
    أقول كنت قد اعتبرت في الثمانينيات، مدة 1966-1980 الحقبة الذهبية. واليوم حين أنظر إلى كامل مسيرة الرواية العراقية نعني من عام 1919 إلى عام 2017، فإني أجد أن هناك ربيعاً آخر وهو السنوات العشر الأخيرة، ما بين 2006 أو 2007، حيث شهدت أعدادا ضخمة وغير مسبوقة من الروايات، وكان بينها بعض أفضل ما قدمته هذه الرواية من أعمال، ووجد العديد منها أصداءً عربية لم يكن حتى الجيد من الروايات يحققه من قبل، كما حصل العديد منها على جوائز فنية رصينة، يُضاف إلى ذلك ما صاحبَ ويصاحب هذا النشاط الروائي من نشاط نقدي وبحثي وقرائي، وأعتقد أن هذا الثالوث حين يتوفر لأي رواية يعني أنها بعافية. وهنا، إذا ما كنت قد تمثّلت للحقبة الذهبية السابقة ببضع روايات، فإني لأجد من الصعوبة أن أتمثّل للحقبة الحالية بعض الروايات لكثرة الجيد والمتميز مما أستغرب أن لا يراه البعض.
  • ولكن هناك أصوات تتحدث عن مرحلة جديدة ومتطورة في مسيرة الرواية العراقية المعاصرة وهي المرحلة التي تسمى بمرحلة مابعد التحرير أو مابعد الاحتلال أو مابعد عام 2003. ويرون أن ربيع الرواية العراقية المعاصرة بدأ بعد تلك المرحلة التي وفرت للروائيين حرية الحديث عن السياسية والجنس والدين ؟ هذا فضلاً عن الجوائز التي حصل عليها الروائيون العراقيون، وكثرة عدد الروايات الصادرة، وترجمة أعمال روائية عراقية إلى لغات العالم، أليست هذه مبررات منطقية ؟.
    كما قلت لك، كان حكمي أو اعتباري المدة من 1966 إلى 1980 الحقبة الذهبية، في بداية الثمانينيات، وأنا أتناول الرواية العرقية ما قبل عام 1980، وبما يعني أنها الحقبة الذهبية ضمن مسيرة الرواية العراقية من 1919 إلى 1980. أما الآن فهناك بالتأكيد مدد ما بعد ذلك التاريخ، أعني منه إلى الوقت الحاضر، قد نراها أو يراها غيرنا حقباً أو سنوات ذهبية أو ربيعية، سمّها ما شئت، وبما يعني أنها شهدت ازدهاراً للرواية العراقية، وحين أقول ازدهاراً فإنني أعني توفّرها على ثلاثة مقوّمات، الأول الكم أو عدد الروايات التي شهدتها أو تشهدها، والثاني هو النوع أي المستويات المتحققة لعدد من تلك الروايات فنياً، والثالث هو الحضور محلّياً وعربياً، وأعني على مستوى القراءة والنقد، بكل ما ينطويان عليه من سعة جمهور القراءة لها، ومقارنةً لها بالطبع بالرواية في غير تلك الفترة أو الفترات، وما تلقاه من النقد عموماً والنقد والاهتمام الاكاديميين خصوصاً. ويدخل ضمن ذلك ما قد هناك من ترجمة ونيل جوائز وتكريمات.. وما إلى ذلك. مثل هذا كله برأيي تَوفّرَ بأشكال ومستوايات مختلفة باختلاف تلك الفترات والروائيين والروايات، وكل ذك، وتأييداً لما لكلامك، خلال المدة الممتدة مما بعد التغيير عام 2003 ولحد الآن. وبقية ما يمكن أن يكون جواباً على سؤالك موجود في جواب سؤالك الأول.
  • ولاشك أن الحضور الذي أشرت إليه، يعني أن الرواية العراقية- في مرحلة ما بعد التغيير، وتحديداً في السنوات العشر الأخيرة التي حددتَها- أشبعت نهم القراء، وقدمت لهم شيئاً جديداً، باعتقادك ما هو الجديد الذي حملته الرواية العراقية إلى القراء عربياً وعالمياً من الناحيتين الموضوعية والفنية؟.
    بداية لا أريد أ أذهب إلى ما ذهبتَ إليه من أنها “أشبعت نهم القراء”، حتى وإن ازدادوا فعلاً، لأنها لما تزل تبحث عن قرائها كما نتمنى أن يكونوا، عدداً ونوعاً، خصوصاً أن هناك أصواتاً نسمعها دائماً وهي تعمل، وربما من حيث لا يقصد أصحابها، على إبعاد القارئ العراقي عن الرواية العراقية، من خلال التثبيط والتقليل من قيمتها. ومن خلال تجربتي العملية أنا متأكد من أن أصحاب هذه الأصوات غير مطّلعين عليها بما يكفي. على أية حال إن هذه الرواية قدّمت وتقدم الجديد في السنوات العشر أو أكثر قليلاً الأخيرة، وهو يتوزع على ما هو موجود أصلاً لكنه ازداد الآن، وما هو موجود ولكنه يُعالج بأشكال ومداخل جديدة، وما جديد كلياً. فمما جاءت به أو تمثّلته الرواية العراقية موضوعاتٍ، وما مارسته واستخدمته وأنتجته فنياً، معالجة لواقع العراق ما بعد التغيير المتّسم بالعنف والتطرف والإرهاب الناتجة عن التطرف الديني والطائفي، وقد عالج الروائي العراقي كل ذلك بجرأة وحرية، بل صار الروائي يتمتع بها إلى حد كبير، ومن هنا، وعلى عكس ما ادعاه البعض، وكالعادة انطلاقاً من عدم اطلاع، لا يكاد يكون هناك روائي عراقي واحد في الداخل والخارج، لم يتناول هذا أو جوانب منه، بل ربما لا أجازف حين أقول قليلة هي جداً الروايات التي لم تتطرق إلى هذا بدرجة أو بأخرى وبشكل أو بآخر، ولا بأس من أن أحيلك إلى روائيين مثل أحمد سعداوي في “فراكشتاين في بغداد”، وبرهان شاوي في “مشرحة بغداد”، وخضير الزيدي في “فندق كويستيان”، وزهير الهيتي في “التراب الأمريكي”، وسنان أنطون في “يا مريم”، وعلي بدر في “الكافرة”، ولطفية الدليمي في “سيدات زحل”، وميسلون هادي في “جائزة التوأم” و”حلم وردي فاتح الليل”، وهدية حسين في “ريام وكفى”.
    وقدم الروائيون الآخر بأنواعه وأشكاله، الأجنبي والديني والقومي والطائفي، مستفيدين من الحرية والاطلاع والتجربة مما أتاحته لهم المرحلة، من هؤلاء مثلاً إنعام كجه جي في “طشاري”، وسعد محمد رحيم في “ترنيمة امرأة.. شفق البحر”، وسنان أنطون في “يا مريم”، وشاكر الأنباري في “أنا ونامق وسبنسر”، وشاكر نوري في “جحيم الراهب”، ومحمود سعيد في “ثلاثية شيكاغو”، وميسلون هادي في “شاي العروس”، ونجم والي في “ملائكة الجنوب”، ووارد بدر السالم في “عذراء سنجار”. واشتركت الرواية العراقية مع الكثير من الروايات العربية في ما اسميته في بعض دراساتي الأخيرة استحضار المسكوت عنه الاجتماعي في التاريخ، مما تجاوزه التاريخ الرسمي، مستفيدين مرة أخرى من الحرية التي صارت تمكنهم من تجاوز التحفّظات بل خرق المحرّمات والممنوعات بأنواعها المختلفة، كما فعل لؤي حمزة عباس في “مدينة الصور”، ولطفية الدليمي في “عشاق وفونوغراف وأزمنة”، وميسلون هادي في “حفيد البي بي سي”، ونيران العبيدي في “منعطف الصابونجية”.
    والخصيصة الأخيرة تحيلنا بالضرورة إلى خرق خرق المحرّمات والممنوعات (التابوهات) الدينية والسياسية والفكرية والجنسية في الحاضر، وهو ما مارسته غالبية الروائيين ووسم الغالبية العظمى من الروايات، كما فعلت عالية ممدوح في “التشهّي”، وعلي الشوك في “تمارا”، زهير الهيتي، في “الغبار الأمريكي”، وطه حامد الشبيب في “سأسأة”، وعلي بدر في “الكافرة”. وتعلّقاً بما هيأه الظرف الحاضر، اهتمّ الكثير من الروائيين بواقع العراق في ظل النظام السابق، مما لم يكن تناوله من قبل متاحاً بالطبع، فلم يجرؤ إلا عدد محدود من روائيي الخارج على تناوله، فاقتحمه روائيو ما بعد التغيير مركّزين، في ذلك، على ما كان هناك من قمع وإحباط وحبس للأصوات ومعاناة بكل أشكالها، كما فعل مثلاً أحمد خلف في “الحلم العظيم”، وعبد الرحمن مجيد الربيعي في “هناك في فج الريح”، وفؤاد التكرلي في “اللاسؤال واللاجواب”، ومهدي عيسى الصقر في “بيت على نهر دجلة”. ومما ليس هو بالجديد كلّياً، ولكنه يحمل شيئاً من الجدة ما يمكن أن نسميه الاستغراق في التفاصيل فهو لم يكن يشكل ظاهرة من قبل، كما صار الآن حين هيمن على أعمالٍ للعديد من الروايات، وهو توزع ما بين أن جاء مترافقاً مع تراجع خط الرواية الحدثي وحبكته، كما في روايات مثل “ثلاثية شيكاغو” لمحمود سعيد، و”حفيد البي بي سي” و”زينب وماري وياسمين” لميسلون هادي، وما لم يتقدم حضوراً على الخط الحدثي وحبكته كما في روايات مثل “عشق ومونغراف وأزمنة” للطفية الدليمي، ومعظم روايات برهان الخطيب وبرهان شاوي.
    بقي، في العودة إلى كل ما مرّ يجب أن نشير إلى حضور الذاكرة موضوعاً وأداةً وبنية في جل الروايات العراقية المذكورة وغيرها كثير، وكل ذلك في ضوء مفاهوم قديمة وجديدة لها. وأخيراً أود أن أشير إلى أن هناك تجاوزات بدرجات مختلفة للشكل الفني السائد بتجريب أشكال وتقنيات وبنى جديدة، وفي النتيجة تقديم تجارب جديدة، والعديد من أصحابها هم في الواقع أصحاب مشاريع فنية متكاملة أعتقد أنها بحاجة إلى دراسات خاصة كما هي حال تجارب: برهان الخطيب، وبرهان شاوي، وطه حامد الشبيب، وعالية ممدوح، وعبد الخالق الركابي، وعبد الستار ناصر، وعلي بدر، وميسلون هادي، ونجم والي.
  • من الناحية الموضوعية نرى اهتماماً ملحوظاً بالهامشي والأقليات ومسألة الهوية هل يعني هذا أن المجتمع العراقي يتجه نحو الانفتاح أم أن هذه المسائل محصورة في خيال الروائيين ومطروحة في أدبهم فقط، وليس لها أصل في الواقع الاجتماعي والديني والسياسي؟
    أصبت، فلعل أهم ما اقتحم الرواية العراقية، بل اقتحمنا على أرض الواقع، بحق واستحقاق غالباً، وبخروج عن الوطنية أحياناً، هو حضور الأقليات والمهمّشين وبارتباط طبيعي معهما الهوية، أم هل نقول الهويات الرئيسة والمتفرعة. فكما تعلم لكّل منا مجموعة هويات: وطنية ودينية وطائفية وقومية وطبقية. وإذا ما كان مثل هذا الحضور، وأنا أتكلم هنا عن الواقع وليس عن الرواية أو الأدب والفن، إيجابياً، كونه أحد حقوق الفرد والجماعة والملّة، فإنه من جانب آخر، وكما صار فعلاً، سلبي بل ربما مدمّر أحياناً. لماذا كان هذا؟ ليس هذا موضوعنا هنا، ولكنه قد قاد، وليس علي بالأسباب، إلى التناحر والاقتتال والتشبّث المبالغ فيه بكل ما يتعلق بكل هوية مهما صغرت، وكأن هذه الهوية أو الهويات قد صارت هدفاً أو غاية تعلو فوق كل هدف أو غاية. على أية حال، دعنا من هذا ولك أن تحاور في هذا علماء اجتماع وسياسة، المهم أن قضية الأقليات والطائفيات بكل أنواعها، وقضية الهوية ما كانتا لتبقيا بعيدتين عن الرواية، وبعكس ما رآه البعض قبل سنوات من أن الرواية العراقية لم تلتفت إلى الواقع العراقية الجديد، اقتحم هذا الواقع، أو اقتحمت الرواية هذا الواقع، وخصوصاً ما يتعلق من ذلك بالمتغيرات السياسية والاجتماعية أولاً، والتطرف والعنف والتصارعات المختلفة ثانياً، والاهتمام بالأقلّيات والمهمّشين ثالثاً. بل بكل ثقة أقول، وعلى عكس ما قاله هؤلاء النقاد، ندر وجود روائي، إن لم أقل رواية، لم يعنَ بهذا كله أو بمعظمه أو، على الأقل، ببعضه، وهكذا وبحدود سؤالك، حضر كثيراً الكردي والتركماني والمسيحي والسني والشيعي والأزيدي، كما حضرت، من خلال استحضار واقع ما قبل 2003، ما رآه روائيون، محقّين أحياناً ومتخيّلين ما لم يكن حقيقةً أحياناً أخرى، معاناة بعض الطوائف والجماعات والطبقات من ظل النظام السابق، وحين أقول متخيّلين أحياناً وبما يعني أنهم لم ينطلقوا من واقع فعلاً، فلأن النظام ظلم الجميع. أما هل يعني هذا الحضور للاقليات والمهمّشين و(قضاياهم) في الرواية، كما تسأل، انفتاحاً في المجتمع؟ المسألة أعقد من أن نقول عنها بهذا الشكل، وهي على أية حال ليست مما يعنيني أنا الناقد، بقدر ما يعنيني ما تقوله الرواية وتعبّر عنه، فأقول وتعلّقاً بمجتمع الرواية وليس مجتمع الواقع هو كذلك أعني يعبر أحياناً عن مثل هذا الانفتاح من جهة، ولكن الأخطر هو أن معظمه يؤشر، عندي، ومرة أخرى في الرواية، يتجه نحو التدمير الذاتي، وإني لمتشائم كثيراً مما يجري في هذا المجال، وكل أملي هو أن أكون مخطئاً، وعلى الأقل أن لا يقود إلى ما أخشاه على أرض الواقع.
  • بالإضافة إلى حضور الكردي والتركماني والمسيحي والسني والشيعي والأزيدي والبهائي في الرواية العراقية المعاصرة، برز روائيون منتمون إلى الهويات المهمشة مثل الكورديين (برهان شاوي وتحسين كَرمياني) والروائيين المسيحيين (إنعام كجة جي، وسنان أنطون، وصموئيل شمعون، وسعدي المالح) وغيرهم، كيف تقيم تجربة هؤلاء أولاً، وهل تجد فرقاً في نظرتهم إلى قضاياهم مقارنة بالروائيين العرب ثانياً؟
    كما قلتَ، لقد حضرت شخصيات تمثل كل تلك الأقليات والأثنيات المختلفة في الرواية العراقية، وربما كان للشخصية الكردية تحديداً حضور ملفت مقارنةً بالآخرين، وغالباً ما اتسمت الشخصية الكردية، أينما ما وردت، بالطيبة والبساطة ودفء علاقاتها، وأحياناً قليلة السذاجة، كما يتجسد ذلك مثلاً في شخصيتي الفتاة الصغيرة التي يلتقيها (مدحت)، خلال هروبه من البيت، في رواية فؤاد التكرلي “الرجع البعيد”، وأخيها الذي يغضب، و(كاكا حميد) الذي يغدر به أعز أصدقائه، إذ بعد اعتقاله يترك في غرفته الفتاة الكردية (نعيمة) التي يجدها تائهة، فيعتدي عليها ذلك الصديق، وشخصية (الجميلة) في رواية “المسرات والأوجاع” لفؤاد التكرلي، وشخصية القروي الذي يتحمل الطريق الطويل والظرف غير العادي حين يأتي من قريبه ليبلغ أهل الطيار (علي)، في رواية “العالم ناقصاً واحد” باستشهاده وقيامهم بدفنه في القريبة مؤقتاً خلال القتال. كل هذه الشخصيات الكردية ظهرت في الرواية العراقية، إضافة إلى أخرى ظهرت في روايات الحرب في الثمانينيات، وفي روايات أخرى لميسلون هادي ولطفية الدليمي وآخرين. ولعل أقلّ منها ظهرت شخصيات مسيحية وتركمانية، نادرة جداً شخصيات يهودية وأيزيدية.
    انتقالاً إلى الكتّاب من هذه القوميات والمكوّنات، نستطيع بسهولة رصد روائيين كُرد ومسيحيين، وإلى حد ما تركمانيين، وبعضهم كان فاعلاً في مسيرة الرواية العراقية وتطورها. فبينما أسهم كتّاب مثل أدمون صبري وعبد المجيد لطفي أدواراً تأسيسية، أسهم كتّاب آخرون، مثل يوسف الصائغ ومحي الدين زنكنه وهيفاء زنكنه وشكار نوري، قدمت مجموعة أخرى إنجازات لا يمكن لدارس الرواية العراقية أن يتجاوزها بأي حال من الأحوال، مثل زهدي الداودي وإنعام كجه جي وتحسين كرمياني، بينما يكاد بعضهم يشكلون ظواهر يجب الانتباه إليها ودراستها، مثل برهان شاوي ونعيم عبد مهلهل. يبقى أن بعض هؤلاء إن كان يمتلك خصوصيته الفنية والموضوعية، كما هو حال محي الدين زنكنه وبرهان شاوي، فإنهم جميعاً لا يكتسبون برأيي، مثل هذه الخصوصية بسبب انتماءاتهم القومية أو الدينية، إلا في النادر، كما هو حال بعض روايات زهدي الداودي وهيفاء زنكنه وعبد الكريم يحى الزيباري.
  • ثمة هوة بين الثقافة الكوردية والعربية في العراق، فيما بعد انتفاضة الشعب الكوردي في شهر آذار عام1991، أتعتقد أنها حصلت بتأثيرات سياسية أم ماذا ؟ وكيف يمكن ردمها؟

بداية أنا لا أحس بهكذا هوة. قد تكون هناك، بل هناك ما يمكن أن نسميه هوة ما بين العرب والكُرد وأسبابها كثيرة يتحمل مسؤوليتها الطرفان، فكلٌّ اقترف ولا يزال يقترف أخطاء كبيرة، ولا يصبّ في صالح أي من الطرفين إنكار اشتراكه في مسؤوليته. ولكن مثل هذه الهوة على المستوى الثقافي والأدبي، إن كانت موجودة فهي باعتقادي محدودة، وأعتقد أن المثقف العراقي عربياً كان أن كردياً، وكما هو حال المثقف في كل زمان ومكان، كفيلان بتمييعها أو تحييد تأثيرها بل إزالتها. أنا أعوّل على هذا مع ما معروف عني من اتهام النخبة الثقافية العراقية بالسلبية. الثقافة، ولاسيما الأدب منها، في العالم كله كانت دوماً ولا تزال عادةً ما تقوم بردم مثل هكذا هوة أو خصومة ما بين الشعوب والقوميات والانتماءات لنترك الأمر للزمن إذن ونرَ.

  • نلحظ أن الرواية النسوية أثبتت وجودها في السرد العراقي بعد عام 2003، ماذا تقول عن التجريب في الرواية العراقية النسوية؟، وإلى أي حد حاولت المرأة العراقية الخروج من الهامش؟
    في الواقع أن المرأة العراقية، وبعد إسهامات متواضعة بكتابة الرواية خلال السبعينيات ودخولاً في الثمانينيات، بدأت إسهاماتها الحقيقية والفاعلة منتصف التسعينيات على أيدي كاتبات مثل سميرة المانع وعالية ممدوح ولطفية الدليمي وميسلون هادي، وسرعان ما صارت الكتابة الروائية النسوية في العراق ظاهرة، وهذا ما رصدتُه، في دراستي “الرواية النسوية في العراق من الحضور إلى الظاهرة” المنشورة في جريدة (المدى)، في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي. إذن فعلاً أثبتت الرواية النسوية وجودها، على حد تعبيرك، في السرد العراقي بعد عام 2003، ولنا في أسماء بضع كاتبات ما يكفي لنقول ذلك: إنعام كجه جي، ودنى غالي، وسميرة المانع، وعالية ممدوح، ولطفية الدليمي، وميسلون هادي، وهدية حسين؛ وإلى حد ما: إبتسام عبدالله، وأمل بورتر، وبتول الخضيري، وبديعة أمين، وكليزار أنور، وناصرة السعدون، وهيفاء زنكنه.
    أما بخصوص سؤالك عن التجريب، فلا أظن بالإمكان عزله في الرواية النسوية، عنه في الرواية العراقية عموماً، إلا من ناحية أنه كانت حاضراً من البداية الفنية الحقيقية للرواية النسوية في العراق. ففي تجربتي سميرة المانع في روايتيها الرائدتين “السابقون واللاحقون” و”الثنائية اللندنية”، في السبعينيات، خاضت المانع في موضوعة الآخر وعلاقة الـ(أنا) أو الـ(نحن) بالآخر الغربي، وفي مغامرة لم تتقدم عليها في الرواية العربية إلا تجارب محدودة جداً، حين تمثّلت الآنا أو النحن بامرأة عربية، والآخر برجل غربي في وقت عرفنا فيه التجربة تحضر من خلال رجل عربي وامرأة غربية، وفي الوقت نفسه هي تجاوزت كل تجارب سابقاتها من الكاتبات العراقيات اللائي كنّ يحاولنا كتابة الرواية ولم يكتبن روايات فعلاً. بقي يجب أن نعرف أن التجريب عموماً يبقى محدوداً مقارنة بالتقليد والسير على الطرائق والأساليب ومعالجة الموضوعات والأفكار السائدة، وهذا أمر ينطبق لا على الرواية العراقية فحسب، بل على كل الرواية في كل أدب قومي وكل زمان، بل في الأدب عموماً. وعليه يجب أن لا نبالغ في التوقع في هذا السياق.
    تعلّقاً بالرواية النسوية ما بعد 2003 لعل أهم ما يمكن أن نستحضره هنا هو التجريب في تفعيل اشتغال الذاكرة على مستوى الموضوع، حيث استحضار الماضي، وعلى مستوى الشكل أو التنويع الشكلي الذي صار بعض الروائيين والروائيات يقدمون روايتهم به، مستعينين، في الرواية الواحدة، بالشكل الحديث، والشكل الحكائي والأسطوري، والشكل السيروي وما إلى ذلك، كما فعلت مثلاً عالية ممدوح في “المحبوبات” و”التشهي”، وميسلون هادي في “العيون السود” و”نبوءة فرعون”، وأنعام كجة جي في “الحفيدة الأمريكية”، ولطفية الدليمي في “عشاق وفونوغراف وأزمنة”. وذلك كله غالباً ما جاء غير منفصل عن البناء والشكل الفنيين التقليديين، اللذين أبداً لم يغيبا عن الرواية عموماً. بقي يجب أن أعترف بأنْ ليس بالإمكان الإيفاء بجواب واف تماماً عن هذا الموضوع المهم الذي هو بحاجة إلى دارس ودراسة تتناول تجارب أهم كاتبات مرحلة 2003- 2017، اللائي توفرت رواياتهن على التجريب والتحديث الفني والإنجاز الناضج في ذلك، وهن بشكل خاص، بدءاً بالأبكر ضمن المرحلة: عالية ممدوح، وهدية حسين، ولطفية الدليمي، وميسلون هادي، وإنعام كجه كجي، ودنى غالي، مع الاعتراف بعدم قراءتي لكل من كوليزار أنور، وأمل بورتر، وسلوى جراح، ولا أرى في روايات غيرهن الكثير.
    بخصوص خروج المرأة العراقية من الهامش، أعتقد أنه تحقق في الرواية، لا النسوية فقط بل الرواية العراقية عموماً، ولكن على أرض الواقع، أعتقد أنها صارت، في ظل هيمنة القوى الظلامية، هامشاً كما لم تكن مثله من قبل، ربما باستثناء المرأة الكردية التي، مع هذا، لا تزال ضمن الفئات المهمشة، وإن بدرجة أقل من ذي قبل.
  • في مرحلة مابعد 2003 رأينا أقلاماً روائية لم تكن لديها تجارب سابقة في مجال كتابة القصة والرواية، وكان بعضهم شعراء وإعلاميين، فما رأيك عن تجربة الأقلام الجديدة أولاً ؟ وثانياً، ما رأيك بشاعر أو صحفي يتحول في مرحلة ما من حياته إلى روائي؟

رصدك صحيح تماماً، وهو أمر طبيعي بلا شك، وتبعاً لذلك كان طبيعياً أيضاً أن أشير إليه في بعض دراساتي، وفعلت هذا فعلاً. تقييم الأقلام الجديدة، وأعني بها التي بدأت كتابة الرواية بعد 2003، مثل سنان أنطون وأنعام كجه جي ودنى غالي وبرهان شاوي وتحسين كرمياني، أو تلك التي كانت قد بدأتها قبل ذلك بقليل ولكنّ ثقلها أو أكثر نشرها كان بعدها، مثل علي بدر وميسلون هادي وشاكر نوري وهدية حسين وسلام إبراهيم وطه حامد الشبيب ووارد بدر السالم ونجم والي وحنان جاسم علاوي وسعد محمد رحيم، فأقول بكل بساطة ما كان ليكون المشهد الروائي غنياً كما هو الآن، بدون هذه الأقلام، لأننا يجب أن نعترف بأن العنصر الشاب في أي مجال إبداعي هو الأكثر ميلاً إلى التطوير والتجديد والانفتاح على الآخر والسابق. لكن الأمر نفسه نقوله عن الأقلام القديمة أو الراسخة أو المخضرمة أو التي أثبتت وجودها من قبل وتحديداً في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين مثل فؤاد التكرلي وبرهان الخطيب ومهدي عيسى الصقر وعبد الرحمن مجيد الربيعي، وبعدهم عبد الخالق الركابي وشاكر الأنباري ولطفية الدليمي وعالية ممدوح وزهدي الداودي وأحمد خلف، فما كان للمشهد الروائي أن يكون غنياً بدون هذه الأقلام، لأنهم كثيراً ما يكونون المعلمين كونهم أصحاب التجارب الراسخة. أما عن كتابة شعراء وصحفيين ومثقفين وأدباء من غير الروائيين للرواية، فلا أجد في هذا من ضير ولا هو بظاهرة غير طبيعية، بل إني وبصراحة لا أكاد ألحظها ظاهرة.

  • كمسك ختام، هل من كلمة أخيرة عن الرواية العراقية؟
    ربما لم يبقَ من شيء كثير بعد أسئتلك الشاملة وأجوبتي التي آمل أن تكون وافية، ولكن، ومع هذا أود أن أقول إن الرواية العراقية عبر تأريخها وتحديداً من عام صدور محاولة محمود أحمد السيد “جلال خالد” عام 1938، وخلال الربع القرن الأخير بشكل خاص، قد حققت ما لم يعد مقبولاً معها أن نسمع بين آونة وأخرى تقليلاً من قيمتها وإنجازاتها التي يمكن أن نلحظها في جوانب عديدة من الفن والموضوعات والمعالجات، مما يتمثل في ظواهر وأساليب عديدة فيها، مثل توظيف الأسطورة، واستحضار المسكوت عنه في التاريخ، ومعالجة موضوعة الهوية والانتماء، وتمثّل الآخر بكل أنواعه وأشكاله، والتنويع الشكلي في العمل الواحد، والاشتغال على الذاكرة.. وغير ذلك كثير. وهنا يجب أن لا ننسى الغنى الذي صارت عليه رواية الخارج أو الغربة مثلاً، والرواية النسوية. ومن هنا لم يكن غريباً أنْ بدأت الرواية العراقية في المدة التي أشرت إليها باختراق الحدود القطرية والحضور على الساحة العربية، وبدرجة، لا زالت متواضعة بالطبع، الساحة العالمية، واهتمام الجامعات والدراسات الأكاديمية بها، وحصولها على العديد من الجوائز النقدية والأدبية، وكل ذلك مما يغمض البعض عينيه عنه، بل قد يأبى الاعتراف بوجود رواية عراقية حقيقية، وهو باعتقادي يأتي غالباً من قصور في أولاً الاطلاع الحقيقي على ما يصدر من روايات، وثانياً القراءة الفعلية، وثالثاً التقييم النقدي.

*ترجمت هذا الحوار إلى اللغة الكردية ونشرته في العدد الأول من مجلة (كيرانه وه –السرد) التي صدرت في مدينة أربيل بإقليم كردستان عام 2021. (د.سالار التاوكوزي).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: