الكاتب والباحث السياسي – أحمد شيخو
في محاولة لقراءة الحاضر وفهمه والإشارة إلى بعض المقترحات، لابد لنا أن نبحث أولاً في امتلاكنا للوعي ونوعيته والمنهجية وماهية الذهنية والعقلية والمنطق الذي نحاول به الإدراك والتفكر وهل نمتلك الإرادة الحرة في تفكيرنا ومقارباتنا وسلوكياتنا ومجمل تفاعلاتنا مع الكم الهائل من التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية المختلفة في شؤون حياتنا و مجتمعاتنا والدول التي نعيش ضمنها وخاصة في ظل غياب الديمقراطية والحرية في الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والثقافية والتي تم فرضها عبر ذهنيات وأساليب أحادية من قبل القوى المركزية في نظام الهيمنة العالمية وانعكاسات ذلك على الجوانب الاجتماعية التي لابد من أخذها بعين الاعتبار مع التداعيات المؤثرة للثورة التكنولوجية والفضاء الافتراضي على ذهنية و تفاعلات الإنسان واستجاباته ومسؤولياته المجتمعية والتوازن المطلوب للاستقرار المجتمعي بين الحرية الشخصية وحرية المجتمع المنتمي إليه الفرد.
سياق تشكل الذهنية من المعابد وتبلور السلطوية:
يمكننا القول أنه من أهم الشروط اللازمة لجعل مجتمعٍ أو شعب وحتى فرد ما منفتحاً على الاستغلال، هو حرمانه من خصوصيته وذاتيته الأخلاقية والسياسية. ولا يمكن تحقيق ذلك دون تأمين تردّي وانهيار الذهنية المجتمعية، التي تشكّل الأساس الفكريّ والدافع المحدد للسلوكيات المختلفة. ولهذا الغرض قام السلطويون الحكّام والاحتكارات الاستعمارية طيلة التاريخ بإنشاء الهيمنة الذهنية كأول وظيفةٍ يتكفّلون بها في سبيل تحقيق مآربهم وأهدافهم. و لعل انشغال الكهنة السومريين بإنشاء المعبد (الزقورات) كأول عملٍ للبلوغ بالمجتمع السومريّ إلى مستوى “العطاء المفتوح”، وبالتالي لجعله منفتحاً على الاستغلال؛ إنما يشير إلى هذه الحقيقة وأهميتها. ويتسم وضع وظيفة المعبد السومريّ بأهميةٍ قصوى، من حيث كونه المصدر الأصل في التاريخ للسلطوية والدولتية. ولا ينفكّ يحافظ على تأثيره بصفته ممارسةً عمليةً في تحريف الذهنية المجتمعية والتشاركية وغزوها وإن عبر الاشتقاقات والهياكل الأيدولوجية المختلفة التي ظهرت بعدها والتي أخذت منها كمنبع للذهنية الدولتية-السلطوية سواء منها الدينية أو الفلسفية أو العلمية الوضعية أو الرقمنة الافتراضية الإلكترونية.
إن السياق الذهني ومع بدء إنشاء الكهنة السومريين لآلهتهم، والشكوك العميقة التي راودت سيدنا إبراهيم إزاء الآلهة والأصنام الموجودة وصولنا لسيدنا محمد بصدد الإله والأصنام والشكوك الفلسفية والعلمية الأخرى وحتى عصر الثورة التكنولوجية له مسار وملامح متشابه. فالذهنيات الجديدة خلال هذه المراحل التاريخية، والذهنيات الأسبق منها والتي توجّب رفضها؛ إنما تتميز بخاصياتٍ تخوّلها لإعادة تكوين الفرد والمجتمع جذرياً، ولإعادة إجراء التغييرات الكلية على أنماطه. أو إنها قادرة على تأمين البراديغمائيات الأساسية كحدٍّ أدنى. ويعزى الدافع الأولي وراء الوقوع في الشكّ إلى نقصان الذهنية القديمة الجذرية ، وإلى عدم كفايتها إزاء نمط الحياة الجديدة الناشئة حديثاً. في حين أنّ إنشاء قوالب الذهنية اللازمة لأجل الحياة الجديدة أمر عسير وليس بالسهولة، ويتطلب نقلةً استثنائيةً وجذريةً في الشخصية. وسواء أسميناها الانبعاث النبويّ أو الطّور الفلسفيّ أو الاكتشاف العلمي أو الرقمنة الحالية، فجميعها تبحث أساساً عن جوابٍ للمتطلبات عينها. فكيف سيتم ترتيب وتجهيز القوالب الذهنية الجديدة، التي هي ضرورة اضطرارية للحياة الاجتماعية الجديدة؟ هنا تظهر الشك أو الريبية الشديدة كخاصيةٍ أساسيةٍ لهذه المرحلة الانتقالية. وما حصل في أوربا الغربية موطن مهد التنامي المستدام للرأسمالية في القرن السادس عشر وما يحصل الآن في أودية السليكونات والفضاء الرقمي، ليس إلا نتاج و ثمرة ممهورة بآثار تلك المراحل التاريخية والحالية وصولاً للحظة الآنية.
من أهم الأعمال التي حرص عليها القوى الدولتية-السلطوية و زاوله الطغاة الجبابرة والحكّام المستبدين والماكرون والنصابين المحترفين كمهمّةٍ أساسية لهم، بعدما تجرؤوا على اعتبار المجتمع مصدراً للاستغلال والربح والهيمنة، هو إضعاف إمكانيات الذكاء وفرص التفكير لدى المجتمع وأبنائه، وتطوير أول احتكارٍ متجسداً في هيئة المعبد كمصدرٍ للاحتكار الذهني وثم في الهياكل الفكرية والفلسفية والعلمية المختلفة وصولاً إلى التضخم السلطوي في الدولة القومية والنظام العالمي المهيمن الرأسمالي الحالي والحالة الافتراضية. لأداء وظيفتين:
1- كوسيلةٍ للهيمنة والسيطرة الذهنية.
2- الأداة الأنسب لسلخ المجتمع عن قيمه الذهنية الذاتية وخصوصيته الثقافية وتاريخه المشترك مع الشعوب المجاورة.
ومن المهم التأكيد أن العجز ونتيجة العديد من العوامل كالتدخلات الخارجية وغياب الديمقراطية وغيرها عن إنتاج الذهنية الحرة والبنى الملائمة لطبيعتها الاجتماعية باستقلاليةٍ وإرادة حرة قد أدى إلى انصهارها في بوتقة اشتقاقات القطب المضاد، حتى أصبح المظلوم يشبه الظالم ويقلده في حياته ويتمنى أن يكون في مكانه لا في مكانه الصحيح وبين مجتمعه. وهنا كانت المصيبة أنه حتى مع انتصار القوى المجتمعية والديمقراطية في تحركاتهم وثوراتهم لكنهم وبعد فترة قليلة أصبحوا لا يختلفون عن القوى السلطوية المستبدة وذلك لأنهم وبوصولهم للسلطة لم يأخذوا سوى بذهنية السلطة والدولة الأحادية وما عادوا يختلفون عن السابقين بشيء لأنهم لم يمتلكوا البديل للدولة وذهنيتها وبيروقراطيتها وأدواتها.
لقد ظهرت مصائب و كوارث مفجعة نتيجة قيام قوى الهيمنة الرأسمالية المتصاعدة في أوروبا الغربية بانتزاع زمام قيادة نظام المدنية المركزية ذات الأصول الشرق أوسطية بعد أن ضعف وعي الحقيقة وذهنيتها في الشرق الأوسط وتزايد بالمقابل في أوربا، وبالسعي إلى إعادة بناء هيمنتها تأسيساً على ثقافة الشرق الأوسط. حيث أوصلت قوى الهيمنة الثقافات الاجتماعية والممتدة آلاف السنين إلى مشارف التصفية والإنهاء، بتعريضها للمجازر والاستعمار وعمليات الصهر والإبادة والدّمج القسريّ الذي مارسته مراراً وتكراراً، وذلك من خلال تسليط هيمنتها وهيمنة القوموية والدويلات القومية التي تتصدر لائحة مؤسساتها العميلة على الثقافتين المادية والذهنية في أجواءٍ من الحروب والصراعات الدائمة. وللأسف لا يتم التفكير حتى باستيعاب كنه تلك المؤسسات العميلة المهيمنة المشادة بناءً على استثمار التناقضات البنيوية للمنطقة، والتي برزت في غضون القرنين الأخيرين من تاريخ الشرق الأوسط، بل أصبح الكثير من التيارات السياسية والثقافية مجرد بيادق ومرتزقة لإبادة التعدد والتنوع الثقافي والأثني والديني في المنطقة تحت إسم الاستقلال والمحافظة على الدولة القومية وتقديسها وهي مجرد أداة ووسيلة للهيمنة الخارجية لإلغاء الثقافة والتقاليد الديمقراطية وقيم المجتمعات والشعوب الأصلية وفتح المجال لكل أنواع التدخلات الخارجية والإقليمية.
ذهنية الثنائيات الوظيفية:
قام الفلاسفة والعلماء وبالمجمل صانعوا وواضع الفكر والذهنية أو بالأصح صائغوه بإنشاء آفق الحل ومبادئ المنطق الجديدة بمقتضى الكيانات التي فرضت وجودها أثناء القرن السادس عشر. فطرح ثنائية الروح-البدن، حتى وإنْ بينت كأمرٍ بسيط، قد جلبت معها التفاعل التدريجي للأفكار المصاغة لاحقاً على شكل التمييز بين الذات والموضوع؛ أو الفاعل والمفعول أو الجوهر والشيء لتتصاعد بالتالي إلى تحكم وسيادة “الرأسمالية والبورجوازية”. وبقدر ما يحصل الانقطاع عن المنطق الإقطاعي، فإنه يتم إنشاء طبقةٍ جديدةٍ يرافقها ويلازمها منطق جديد ضروري للقيام بشتى أنواع عملياتها. علاوةً على ذلك، بل والأهم منه، أنّ سلّم الأولويات يرتّب وفق هذه الصياغات الأيديولوجية، وبما يتوافق ومقتضيات تمكين الطبقة الجديدة الحاكمة من إدارة الطبقات القديمة والجديدة والتحكم بها.
إنها ألعوبة قديمة تدور، ولكن بشكلٍ جديدٍ للغاية. فالفلاسفة والعلماء وأودية السليكونات والمبرمجين باتوا الاسم الجديد لطبقة الكهنة الجديدة. فتنتهل الاصطلاحات والنظريات على الدوام من الخزينة الأيديولوجية الإقطاعية، بل والعبودية أيضاً. وحسب الوضع، فإما أن ترمّم وترقّع، أو أن يتكوّن منها نموذج جديد للغاية (بشرط أنْ تبقى المبادئ كما هي) و المرحلة الرقمية الحالية هي في نفس المسار في البحث عن وسائل وأدوات فكرية وذهنية لاستمرار الهيمنة لطبقة الكهنة العصريين والأصنام الجديدة كالمؤسسات والتشكيلات والشركات الإلكترونية والمضامين المعنوية وهم في خدمة الكهنة والملوك الجدد النظام المهيمن العالمي وأدواته واقتصاده وعمله الدائم للبحث عن الربح والهيمنة والنهب دون مصالح وحياة المجتمعات والشعوب والإنسانية الحرة والاستقرار الاستراتيجي المجتمعي.
الذهنية الزراعية النيوليتية:
ومن أقدم الذهنيات التي كانت البداية للمجتمعات والشعوب وللإنسانية ومسيرتها على درب الحضارة والأخلاق هي التي تبلورت في القسم العلويّ من ميزوبوتاميا موطن الشعب الكردي. تلك الأراضي المعطاء من الهلال الخصيب، والذي تكتنفه وتحيط به سلسلة جبال طوروس–زاغروس. إنها الأراضي التي لا تنفكّ تحتفظ ببقايا القوالب الذهنية الغائرة في جذورها، والتي شهدت بداية العصر النيوليتي وبداية حضارة المدينة، فهي الأماكن الأساسية التي تم فيها الانتقال إلى العصر النيوليتي ومن أمثلتها كما في موقع خرابي رشكي(كوبكلي تبه) التاريخي في محيط مدينة رها (أورفا) في باكور كردستان(جنوب شرق تركيا)، حيث المسلاّت الضخمة المحيطة بأماكن العبادة في المعابد، والمعمّرة اثني عشر ألف عام والتي ظهرت نتيجة التنقيبات الأثرية في العقود الأخيرة.
مجتمع القطيع بين الدولتية القومية والرقمنة الإلكترونية:
كانت جهود ومساعي تحقيق التحول في المجتمعات سابقاً ترتكز إلى الثورات والحركات التنويرية والثقافية. أما الآن، فيتم الفرض أو السعي إلى انتزاع النتائج المأمولة بالأساليب السلطوية و المالية والرقمية، وبمنوالٍ شاملٍ وممنهج، دون بذل أيّ مجهود، وهكذا، تسري على كلّ المجتمعات حركات التنميط العالمية، ومحاولات تمريرها من البوتقة الثقافية الأحادية، لخلق مجتمع الحشد ومجتمع القطيع، ولإعادة هيكلة تلك المجتمعات بحيث تخلو من أيّ اعتراضٍ على النظام أو أية حركات رفض ومقاومة، مهما كان بسيطاً. بالتالي، فمشاريع هندسة المجتمعات والشعوب وقذفهم بالأيدولوجيات الليبرالية، تقوم مقام الثورات والإنطلاقات المهمة والتحولات الديمقراطية. أي، لم تعد ثمة حاجة للإنطلاقات والثورات. فكلّ شيءٍ يمكن تحويله إلى مشروع أو فضاء رقمي. فضلاً عن أنّ مموّلها جاهز والمتحكم فيها حاضر ودقيق ولديه كل المعلومات والمؤشرات بحسب رؤية النظام العالمي المهيمن ومنظريه وأساتذة جامعاتهم ومراكز بحوثهم.
يلوح أنّ هذا بالضبط هو المجتمع المضاد، مجتمع المحاكاة، المجتمع الافتراضيّ، ومجتمع الذهنية الأحادية مجتمع المفتقد للإرادة الحرة وللأخلاقية المجتمعية ومتشرذم ومفكك وغير قارد على الدفاع عن حقوقه ووجوده. وهنا ليس من الخطأ القول، إن ما يفرض هو عالم أو مشروع تطبيق الفاشية بقناعٍ جديدٍ وبأبعادٍ كونية؟ وعليه ينبغي تعريف مجتمع عصر المال والمجتمع الرقمي والإفتراضي وأودية السليكونات، والتعرف عليه من جميع النواحي.
تمدّنا ظاهرة الفهم والمستويات الذهنية المتطورة والمتنامية كشكلٍ من أشكال الطاقة التي تصل مرتبة الإنسان ببعض رؤوس الخيط لأجل الجواب. فالتطور الطبيعيّ للكون، والذي يبلغ منزلة الإنسان، يبسط للعيان قوة معنى متناميةً ومزدهرةً دون انقطاع. وكأنّ الواقع الخفيّ أو الكمونيّ المستتر في الكون يروم إلى بلوغ نتيجةٍ أقرب ما تكون إلى الانكشاف والتجلي والفهم والإفهام. الحاجة إلى الفهم والإفهام محفّز أساسيّ على التطور الطبيعيّ. بالتالي، من الصعب علينا تطوير مفهومٍ علميّ، ما لم نطهّرْ مصطلحي التاريخ والمجتمع من تداعيات تلك القوالب الدولتية والقوموية للهيمنة الأيديولوجية غربية المركز. إذ إننا نغالي في تضييق الخناق على ذهنيتنا التاريخية والمجتمعية في سبيل التحول إلى أمة دولة. وعادةً ما بات إنشاء تاريخٍ لكلّ مجتمعٍ مرهوناً بكينونة وصيرورة الأمة والدولة لديه. فنشعر وكأننا سنضيّع فرصة الاندراج في لائحة المجتمعات، فيما لو لم نتّسمْ تاريخياً بسمات أمة دولةٍ قوية، مما لا شائبة فيه أنّ هذه الذهنية القوموية الدولتية الصاعدة كعاملٍ أساسيٍّ للاستغلال والتحكم لدى الحداثة الرأسمالية، تشكّل المؤثر الأساسيّ في النقصان والانحراف والعمى الكامن في علم التاريخ والمجتمع. ذلك أنّ ما يطلق العمى الأسود على آفاقنا بصدد علم التاريخ وعلم المجتمع، هو الأجهزة الاستغلالية والأيديولوجية للهيمنة الرأسمالية.
ونظراً لأنّ المراد الأوليّ للدولتية القومية المشادة في ساحات تلك البنية الرئيسية هو خلق مجتمعٍ نمطيّ، فإنّ العاقبة التي تنتظر الواقع الكرديّ في هذه الحالة كانت التصفية بالإبادات الجسدية والثقافية. وكيفما أنّ سياق القضاء على الكرد كان سينمّ عن المقاومة والعصيان كأمرٍ لا مهرب منه، فإنّ تحريض المجتمع واستفزازه أيضاً كان من دواعي مآرب التصفية نفسها. وقد كان يسود الاعتقاد بذلك بسبب منظور الوضعية. إذ كان القضاء على الواقع الكرديّ يعتبر تقدماً. وقوى الدولتية القومية كانت واثقةً من نجاحها التامّ في تحقيق هذه التصفية في أقصر وقت. والتعبير عن ذلك في الدستور كان يتجسد في تركيا في المادة: “التركيّ هو أيّ شخصٍ مرتبطٍ بالدولة التركية من خلال رابطة المواطنة”. وتعرّف الأيديولوجيا الوضعية نفسها ظاهرياً بأنها دنيوية ظواهرية علمية، وأنها البراديغما الثالثة والأخيرة للإنسانية بعد الدين والميتافيزيقيا. أما مضموناً، فهي قالب فكريّ ميتافيزيقيّ، ورأي دنيويّ أضيق نطاقاً وأكثر فظاظةً ودوغمائية. إذ نتلمس هذه الحقيقة بأسطع أشكالها في تعريف التركياتية ضمن الدولة القومية التركية المرتكزة إلى الأيديولوجيا العلمانية والقومية. فهي مقتنعة في قرارة نفسها بالذهنية القائلة بأنّ المرء سيغدو تركياً بمجرد قولها “كنْ تركياً!”، وكذلك سياق أغلب التيارات القوموية في المنطقة ودولها وكأنه أمر الربّ الذي يقول “كنْ” فيكون! هكذا، ومثلما يلاحظ في هذا المثال، فالعلمية السوسيولوجية تسبح في فراغ، مبرهنةً بذلك على سيادة الطابع الوضعيّ الميتافيزيقيّ بشكلٍ فاقع. وكلّ ما يمارس بتعسفٍ جائر هو من دواعي ذلك.
الحل:
أنّ مقترح الأمة الديمقراطية للقائد عبدالله أوجلان، تلك الأمة التي لا تكتفي بالشراكة الذهنية والثقافية فحسب، بل وتوحّد كافة مقوّماتها وتديرها في ظلّ المؤسسات الديمقراطية الذاتية. هذا هو الجانب المعيّن فيها. أي أنّ طراز الإدارة الديمقراطية والذاتية المجتمعية الحرة، هو الشرط الرئيسيّ في لائحة صيرورة الأمة الديمقراطية. وهي بجانبها هذا بديل للدولة القومية والذهنية الأحادية. فالإدارة الديمقراطية البديلة لحكم الدولة فرصة للحرية والمساواة والعدالة. في حين أنّ السوسيولوجيا الليبرالية تطابق الأمة أساساً مع دولةٍ مشادة أو مع حركةٍ تهدف إلى تشييد دولة. وكون حتى الكثير من التيارات الاشتراكية واليسارية سارت في هذا المنحى، هو مؤشر على مدى قوة الأيديولوجيا الليبرالية. أما الحداثة البديلة في الأمة الديمقراطية، فهي العصرانية الديمقراطية. في حين يشكّل الاقتصاد المطهّر من الاحتكار، والأيكولوجيا الدالة على التناغم مع الطبيعة، والتقنية الصديقة للطبيعة والإنسان؛ يشكّل الأرضية المؤسساتية للعصرانية الديمقراطية، وبالتالي للأمة الديمقراطية.
وبالتالي بإمكاننا تعزيز وعي الحقيقة بالثورة الذهنية للعصرانية الديمقراطية، ومن خلال مسارات الفلسفة والفنّ والعلم المنجزة لمجتمعيتها؛ لنحقّق بذلك الحياة الصائبة والفاضلة والجميلة.
إنّ الأساس الاقتصاديّ للحضارة الديمقراطية على تناقضٍ دائمٍ مع احتكارات رأس المال المبنيّة على فائض القيمة الاجتماعية. فهو منفتح على الممارسة الحرة لشتى أشكال النشاط، بشرط أخذ الاحتياجات الاجتماعية الأساسية والعناصر الأيكولوجية بعين الحسبان في تطوّر الزراعة والتجارة والصناعة. ويعتبر المكاسب شرعيةً ما دامت خارج إطار الربح الاحتكاري.
يتحقّق صعود الحرية و”المساواة ضمن الاختلاف” والديمقراطية بأفضل السبل في المجتمعات الأخلاقية والسياسية التي تسودها السياسة الديمقراطية القادمة من الذهنية التشاركية والإرادة الحرة. ذلك أنّ الحرية والمساواة والديمقراطية غير ممكنة إلا بقوة النقاش والقرار والممارسة، التي ينفّذها المجتمع بقوته الوجدانية والذهنية الذاتية الجوهرية. ولا يمكن تحقيق ذلك بأية قوةٍ من قوى الهندسة المجتمعية والتدخلات الخارجية.
ولا يمكن عيش الحياة البشرية إلا بنحوٍ مجتمعيٍّ حرٍّ وديمقراطيٍّ ومفعمٍ بالمساواة ضمن الاختلاف، سواء كان المرء طليقاً أم سجيناً، وسواء تواجد في رحم أمّه أم في أية لحظةٍ أو مكانٍ داخل الفضاء المترامي. وكلّ أشكال الحياة الأخرى هي شاذة، وبالتالي مرضية. ولكي تعاد الحياة إلى مجراها الصحيح وتداوى فتتعافى، ينبغي خوض كفاحٍ دؤوبٍ بشتى أنواع القول والعمل الاجتماعيّ، بما في ذلك إنجاز الثورة. وينبغي أنْ تتكوّن في سبيل ذلك الذهنية التشاركية والإرادة الحرة اللازمتان أخلاقياً وجمالياً وفلسفياً وعلمياً.