الكاتب والباحث السياسي الكردي– أحمد شيخو
تتسارع الأحداث في أوكرانيا بين روسيا والناتو والظاهر أنها وصلت إلى مرحلة جديدة يصعب على الفاعلين الرئيسين التراجع في ظل استعمال القوى الصلبة من العسكرية والاقتصادية واهتزاز أركان النظام العالمي، وهنا يمكننا القول أنه يجسد أحد فصول الحرب العالمية الثالثة التي ربما يكون الأخير أو قبل الأخير في ظل الأحداث التي تشهدها روسيا ومناطق الشرق الأوسط بعد أعوام التسعينات وصولاً للعقد الأخير.
لاشك أن تداعيات هذه الحرب على أوربا والمنطقة لن تقل عن تداعيات الحرب العالمية الأولى. من حيث إعادة إنشاء المنطقة ونظامها الإقليمي ورسم الخطوط الجديدة إن تعمقت ووصلت لمراحل حرجة.
لقد شكلت تركيا منذ 1923 وترسخت دورها بعد 1952 بأن تكون لها وظيفة صد روسيا السوفيتية وأن تكون حائط صد أمام توغلها وتسللها وانتشارها ، ولقد قامت تركيا بهذا الدور على اكمل وجه مقابل أن يتم إطلاق يدها في إبادة الكرد والأرمن والسريان الأشوريين واليونان وغيرهم في تركيا. وأن لا يحصل الكرد في أي جزء من كردستان المقسمة على أي نوع من السيادة و حتى حالة الكيان الاجتماعي المنظم على أراضيهم. و كذلك أن لا يحصل في إيران ما حصل في سوريا والعراق، وأن يكون لها حصة من السمسرة والاقتصاد والثروات في الشرق الأوسط.
ولكن في السنوات الأخيرة وبعد نظام الرجل الواحد الذي أوجده أردوغان وحزب العدالة والتنمية، حاولت تركيا إقامة علاقات مع روسيا وإيران في محور أستانة في سوريا وقبلها مع إيران وسوريا وإقامة مزيد من العلاقات مع روسيا والصين، ربما لزيادة عدد الأوراق التفاوضية في يديها و لاشك هذا كان ولايزال مزعج لإسرائيل وعدد من الدول العربية ولا تقبل به على المدى الطويل ، وإن تم حتى الآن بكن ربما لن يستمر في ظل التطورات الحاصلة.
تقف تركيا الأن على الصراط المستقيم. فهي عاجزة عن حسم خيارها، وترعى سياسةً توازنيةً كلاسيكيةً مع الطرفين مع حلف أستانة بقيادة روسيا وحلف الناتو بقيادة امريكا، فهي تعرف التداعيات الخطيرة على تركيا و السلطة ومستقبل اردوغان شخصياً لكن عليها الاختيار وإن كانت تود ان تستمر الحالة الحالية التي سمحت لها باحتلال شمالي سوريا وشمالي العراق والدخول في الدول العربية تحت حجج واهية.
لدى تركيا خيارين:
1- أن تقف مع روسيا، وعندها ستصبح تركيا سوريا أو ليبيا أوالعراق أو اليمن الثانية. وفي هذه الحالة، سيؤازر النظام حركة الدولة القومية الكردية بكلّ ما أوتي من قوة، وسيوسّع رقعة خلية الدولة القومية الكردية في العراق. وعليه، من المتوقّع حينها تكوّن القطب المؤلّف من إسرائيل–الإدارة الكردية في العراق–KCK، والذي سينمّ عن نتائج عظمى وتحولات كبرى في منطقة الشرق الأوسط.
2- أو أن تستمر مع حلف الناتو وهنا عليها أيضاً التوافق مع الكرد وفتح مسافة في علاقاتها مع روسيا والصين وإيران. وإلا ستكون امام فقدانها للأوراق التي كسبتها بالعلاقة مع روسيا وإيران و ربما سيكون تراجعه المحتمل في سوريا والعراق وليبيا وأماكن أخرى.
علينا الإشارة أن النظام المهيمن العالمي لا يستطيع أن يتراجع عن خطواته وحضوره وتأثيره في الشرق الأوسط. وفي حال قيامه بذلك، فلا بدّ عندئذ من حصول مستجدات ستزعزع أركان المنطقة والعالم أجمع؛ بدءاً من حسم أمر إسرائيل وتصفيتها، ووصولاً إلى القضاء على الكثير من الدول العربية، الصغيرة منها والكبيرة وكذلك انتهاء تقسيم الكرد بين الدول الأربعة وصعود نجمهم وانهيار تركيا، وحتى اليونان وغيرها، كون هندسة المنطقة ووضعها الراهن هو من بقايا النظام العالمي الذي فرض نفسه وتقسيماته وأدواته وبؤر التوتر اللازمة له لتحقيق هيمنته حتى الآن.
يمكننا أن نضع مثل هذه الأحداث المحتملة نصب العين، لدى الإشارة إلى “الحرب العالمية الثالثة” التي تتزايد وتيرتها مع فصل الحرب الجديدة في أوكرانيا. حيث من الوارد أن تستخدم أعتى أنواع الأسلحة، بما فيها الأسلحة النووية في حال تطورت الوضع إلى حد ومستوى تحديد نظام مهيمن إقليمي أو عالمي جديد . لا جدال في أنّ النتيجة والتداعيات على المنطقة لن تختلف كثيراً عن حال أوروبا إثر الحرب العالمية الثانية. بل وستكون أشدّ وطأة، وربما بعض المؤشرات ولئن ما قسناها مع الأحداث البارزة خلال الأعوام العشرة الأخيرة في المنطقة، من سوريا وليبيا واليمن والعراق ولبنان و افغانستان وغيرهم، فسندرك فحوى وحشية الأحداث المحتملة بصورة أفضل من حيث حالات الانهيار والجوع والإرهاب وتجاوز الدول على بعضها أو على بعض المتبقي من مايسمى بالسيادات .
مهما تكن الأوضاع وبوصلاتها بعد شهور وسنين فإنّ النظام المهيمن وأن كان جديداً أو بصيغة وأشكال جديدة، لن يقنع بالوضع السائد للمنطقة والإقليم وخاصة وضع تركيا وإيران الحاليتين. بل سيطمع في التغلب والتفوق واخضاعهم بشكل كامل، مثلما هي حال كلّ نظام مهيمن يريد فرض هيبته. وهذا ما سيستوجب تخلي إيران عن نفوذها الإقليميّ المرتكز إلى الشيعية القومية، وإيصالها إلى حالة من الخنوع والمطاوعة، مثلما كانت عليه في عهد الشاه. لكنّ رضى إيران بهكذا وضع يعني قبول الموت. في حين أنّ جميع المؤشرات تدلّ على أنّ مساعي بسط النفوذ على المنطقة ستستمرّ باضطراد. وهكذا، ليس بعيداً عن الاحتمال مع بدء مرحلة جديدة من مراحل “الحرب العالمية الثالثة”. بينما لا يمكن لوضع اللااستقرار هذا أن يدوم طويلاً.
سيكون للاتفاق بين تركيا–إيران–روسيا وقع بالغ الأهمية، رغم تطوّره على خلفية العداء للكرد. فليست عبثاً الادعاءات القائلة أنّ المحور في تركيا قد انحرف. فوضع تركيا الحاليّ لن يستمرّ فترةً طويلةً في حال بقائها داخل النظام المهيمن الغربيّ. حيث عوّلت تركيا على إلحاق الاتفاق الثلاثيّ بالنظام القائم، مقابل انتزاع تنازلات محدودة وقولها أنها بهذا الشكل والتحالف تحجمهم وتخدم نظام الهيمنة. و لكن هذا ما سيجعل إسرائيل منفتحةً على المخاطر. ومن غير الوارد أن تقبل الحركة الصهيونية بهكذا حال. وعلى النقيض، يتعين على إسرائيل أن تضاعف من نفوذها وهو الملاحظ مع اتفاقيات أبراهام، بصفتها أهمّ حليف أو خلية مهيمنة للنظام ضمن المنطقة. وستصبح مرغمةً اكثر بالضرورة على وقف أو حسر النفوذ المتزايد لكلّ من إيران وتركيا وروسيا كما تفعله الأن بعد الحضور الإيراني القوي في العراق و سوريا. موضوع الحديث هنا هو تنازع ضمنيّ غير مسمّى على الهيمنة الإقليمية، بين تركيا وإيران من جهة، وإسرائيل من الجهة الأخرى. فموقع إيران المناهض لإسرائيل واضح جداً. لكنّ ولوج تركيا في هذه الحال، ولو لمآرب أخرى مختلفة بقصد استمرار إبادة الكرد، سيؤجج من حدّة الصراع على الهيمنة داخل المنطقة، مهما لم يستسغ ذلك. أي أنه ترجح كفة احتمال أن يثمر ذلك عن نتائج معاكسة لآمالها.
سيكون لهذا الوضع وقعه المتعاظم طردياً على السياسة الداخلية بشكل أكبر من الآن . فمن المتوقّع أن يتلاشى تحالف القوى التي أسفرت عن ظهور AKP، وأن يتأسس ائتلاف قوى داخلية جديدة بدلاً منه. والتطورات الجارية في AKP و CHP وCHP ملفتة للأنظار على هذا الصعيد. إننا تماماً على مفترق طرق لجهة القضية الكردية، التي زجّت تركيا في هذه الحالة المتناقضة.
في السابق وقبل الثورة البلشفية التي تكلم عنها بوتين وبسلبية في خطاب الاعتراف بالجمهوريتين (دونيتسك ولوغانسك) في دونباس في شرقي أوكرانيا، كانت لروسيا القيصرية حضور يصل في شمالي إيران وشمال شرق تركيا ومناطق عديدة أخرى أيام العثمانين، وفي حال كان الرد من النظام الدولي المهيمن فاتراً وغير فعال، سيكون لروسيا جولات جديدة ولعله سيكون لصين مثيلاتها في تايوان وسيكون هناك وضع حرب عالمية وانتهاء ما تسمى بالشرعية الدولية وقوانينها التي تلفظ انفاسها الأخيرة من سنوات عديدة، في ظل التجاوزات الكثيرة على قوانينها وقراراتها التي باتت تطبق وفق أهواء بعض القوى العالمية والإقليمية.
ولعله سيكون للشعب الكردي ونتيجة جغرافيته وتموضعه وقوة تنظيمه ومشروعه السياسي والفكري وفعاليته في المعادلة الإقليمية والدولية كفاعل هام من غير الدول القومية المنتهية الصلاحية وفق متطلبات المرحلة الحالية وأزمة المنطقة والنظام التابع لها دور مهم في رسم صورة الحالة النهائية.
ولكن هل يتخلى نظام الهيمنة العالمية الذي وضع الكرد في حالة تقسيم وبؤرة توتر عن “الورقة الكردية” الهامة بنظرهم وحسب تعبيرهم ويتركوها لروسيا أو لقوى أخرى. بالطبع لا فمهما حاولت روسيا إعطاء انطباع بأنها تود التودد للكرد وفسح المجال أمام مشاركتهم في المسار السياسي السوري مثلاً رغم الفيتو التركي ، إلا أن من الوارد أن لا تستطيع روسيا انتزاع الورقة الكردية وفق تعبيرهم من نظام الهيمنة العالمية وربيبتها في المنطقة إسرائيل ولعل وضع حزب العمال الكردستاني في قائمة الإرهاب واعتقال القائد أوجلان تعبر عن تلك الحقيقة في أن نظام الهيمنة لا يسمح بأن تخرج الورقة الكردية من أيديهم أو أن يكون للكرد استقلالية في مطالبهم وإدارة مجتمعهم ورسم سياساتهم ، وهم عندما قسموا الكرد كانوا يدركون أهمية القضية الكردية والفائدة من استخدامها عند اللزوم وعدم تركها للأخرين.
وفي كافة الحالات المختلفة، تتميز كردستان جغرافياً والكرد على صعيد التحالف والشراكة بمنزلة استراتيجية مؤهّلة لتحديد الطرف الذي ستكون نهاية التوازن لصالحه أو ضده. وبتعبير آخر، قد تتراجع كردستان من الآن فصاعداً عن كونها رقعة شطرنج تقليدية، وقد يتخلى الكرد عن دورهم كجنود دمى؛ ليتحولوا إلى ذوات فاعلة. والسياسة التي سيجري اتّباعها، والتحالفات الداخلية والخارجية، هي التي ستحدّد مسار ذلك.
بناءً عليه، يتعين على تركيا الاقتناع بحلّ قضيتها الكردية بالسّبل الديمقراطية السلمية والمبدئية والمنفتحة مضموناً على الإدارة الذاتيّة كحدّ أدنى. وهذا ما سيعني (ضمن الظروف المغايرة) العودة ثانيةً إلى إبرام تحالف صادق ومدروس على غرار ما كان سائداً في مرحلة التحرر الوطنيّ في بداية تشكل تركيا وخوض حرب الاستقلال عام 1919 و1921. بالتالي، فالجمهورية التي حرّفت عن مجراها بناءً على الخلفية التآمرية، ستتحول مرةً أخرى إلى نظام منفتح على الديمقراطية والوفاق الديمقراطيّ. أما الخيار الثاني، فهو دورانها المتزايد في فلك إيران وروسيا، وتركيزها أكثر فأكثر على محاربة الكرد. في حين أنّ سوريا وإيران وروسيا لن تصعّدا من حربهما ضد الكرد. بل ستظلان ميّالتين لسياساتهما التقليدية في الوفاق، وستحمّلان تركيا أوزار الحرب. ومثلما الحال حتى الآن، فأن تضع تركيا ثقلها المتزايد على الحرب في كردستان، سيؤدي إلى أن تصبح أفغانستان أو عراق أو سوريا ثانية، وربما بدرجة أشد . فالمسافة التي ستقطعها تركيا عسكرياً، قد قطعتها منذ زمن بعيد واستعملت كل الأسلحة حتى الكيميائية ضد الكرد. ولن تسير الأمور لصالحها من الآن فصاعداً، إلا بالحوار السياسيّ والديمقراطيّ. هذا إن سمحت بذلك التقاليد التآمرية والانقلابية الوطيدة جداً لديها في داخلها وإن استطاعت النفاذ والحفاظ على كيانها أصلاً ، لأن إعادة ترتيب النظام الإقليمي أو إنشاء واحد جديد يتطلب أولاً التخلي عن أدواة النظام العالمي السابق والتي منها تركيا وإسرائيل والدول القومية في المنطقة أو إجراء تغيرات في بنيتها لتناسب المفاهيم والسياسات والأوضاع الجديدة إن لم تذهب وتنتهي مع انتهاء أهداف وعوامل وجودها الأساسية في ظل الاحتمالات الكثيرة عن إعادة هيكلة الدولة والنظم وأدوات النظام العالمي والإقليمي. مع الإشارة أن القادم سيتوقف في جزء كبير منه على كيفية تطور الحرب في أوكرانيا وتوسعها والتداعيات التي ستنتج على المنطقة والعالم في ظل الترابط الاقتصادي والعسكري والأمني والسياسي والمالي وموقف نظام الهيمنة العالمية والناتو و G7 وأوربا وتفاعل الشعوب ودول المنطقة مع الأحداث وفق الآليات التي ستختارها لتجاوز الأزمة وحالة حرب العالمية الثالثة، التي يمكن أن تتوقف بتقسيم أو تشارك عدة دول منها روسيا والصين وأوربا وأمريكا مع البعض وبتوافق في أحد المراحل الحرب في نظام هيمنة متعدد الأقطاب وليس أحادي القطب كما هو الأن طالما يتشاطرون نفس الأيدولوجية والحداثة وهي الرأسمالية ، لكن حتى هذا التعددية والتشارك تتطلب تغيرات عديدة وإجراء إعادة تشكيل المنظمات الدولية والإقليمية حسب التوافق الممكن والصعب إن حصل وحتى تغير في البنية الفكرية والسلوكية علاوة على تقاسم السلطة والهيمنة والأرباح.