محمد أرسلان علي
أطلّ علينا اليوم زعيم الولايات المتحدة الأمريكية ببيان يُعلن فيه أنه تم تصفية زعيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المدعو أبو ابراهيم “الهاشمي القريشي” والذي اسمعه الحقيقي عبد الله قرداش. كانت العملية قد تمت بعد جهد ومعلومات استخبارية دقيقة وتم تنفيذها فجر هذا اليوم في منطقة تقع شمالي معسكر آطمة والتابعة محافظة إدلب المحتلة من قبل تركيا ومرتزقتها. وأن مكان تنفيذ العملية هذا لا يبعد عن معسكر للجيش التركي سوى كيلو متر واحد فقط الذي تم انشاءه كنقاط مراقبة يتوافق الضامنين في الأزمة السورية بين روسيا وتركيا وايران. وقبل هذا اليوم بثلاث سنوات تقريبا وفي يوم الأحد 27 أكتوبر 2019، طلّ علينا أيضاً في مشهد مشابه لليوم الزعيم الأمريكي ترامب ليعلن عن مقتل زعيم داعش المدعو أبو بكر البغدادي، في عملية إنزال جوي دقيقة في قرية “باريشا” التابعة لمنطقة حارم في ريف إدلب المحتل من قبل تركيا.
قرية “باريشا” التي كانت الحضن الدافئ للبغدادي وتحولت لقبر، وقرية آطمة التي كانت الحضن الدافئ لقرداش وتحولت لمقبرة له ولزوجاته وحراسه، هاتين القريتين واللتان لا تبعدان عن الحدود التركية سوى كيلو مترات قليلة جداً وبجانبها نقاط مراقبة للجيش التركي. وهو ما يعني من دون أي استنتاج أو تحليل أن زعماء هذا التنظيم الإرهابي لا يمكن أن يبتعدوا عن حضن من يدعمهم ويوجههم ويخطط لهم ويرعاهم، والذي هو الخليفة الحقيقي لمختلف التنظيمات والتيارات الإرهابية والمتطرفة بمختلف مسمياتها والمتواجدة تحت رعاية الجيش التركي والخليفة الحقيقي لكل الإرهابيين، أردوغان.
عملية مقتل أبو بكر البغدادي تم تسميتها بكود وهو عملية “كايلا مولر”، وهي ناشطة حقوق إنسان أمريكية وعاملة في المساعدات الإنسانية ولدت في يوم 14 أغسطس 1988 في بلدة بريسكوت (أريزونا) في الولايات المتحدة، عملت في سوريا واختطفت في أغسطس 2013 في حلب من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بعد تركها لمستشفى أطباء بلا حدود وقُتلت في يوم 6 فبراير 2015. وانتقاماً لمقتلها بأوامر من البغدادي تم تسمية العملية باسمها.
فكل ادعاءات أردوغان بأنهم يحاربون الإرهاب وداعش ما هي إلا ضحكٌ على الذقون كما يُقال، ولتسيير القطيع الذي لا زال يعتقد أن أردوغان تركيا برفعه القرآن، هو النموذج الذي يبحث عنه البسطاء في منطقتنا التي افتقدت للرمز والزعيم والخليفة. يبحث عن أية شخصية يجعل منها طوطماً في الصباح وربما يأكله مساءاً ويلعنه بنفس الوقت. المهم ألا يعيش هذا البسيط والساذج وربما يكون من القطيع بنفس الوقت، من دون طوطم أو رمز أو زعيم خالد أو أي إله صغير، المهم أن يراه بعينه بعد أن يأس من الذي في السموات.
حالة من القنوط والإحباط يعيشها الانسان في منطقتنا جراء وعود لم تنفذها أنظمة تسلطت على رقابهم منذ عقود عديدة، وزعماء تألهوا ووضعوا هالة من القداسة حولهم، ليتحول الوطن والعمل والأب والابن والأمل والتفاؤل والسيادة والجيش والولاء، ليتحول ليختزل في شخص هذا الزعيم الخالد الذي لم تنجب السماء أحداً غيره، وهو القائد الضرورة والصيرورة الأبدي. وليحترق الوطن بمن فيه كرمىً لعيون هذا الزعيم.
بات شعاراً يقوله كل من تبقى في الوطن كي يعيش فقط وليس شيئاً آخر، “الأسد أو نحرق البلد”، فها هو البلد يحترق رويداً رويداً مخلفاً وراءه ركاماً وأطلالاً وحطاماً معمّد بدماء آلاف الضحايا والقرابين الذين صدقوا طرفي الصراع أنهم يحررون البلد من الكفرة (النصيرية “الشيعية” أو الإرهابية “السنية”). لتمتلئ باطن تراب الوطن بأجساد ممزقة أو منحورة الرأس أو محروقة أو مهشمة بآلاف الآهات والصرخات الأنين. وكلٌ لإعلاء كلمة الحق في قتل الآخر، وكأن الحق لن يُعلى إلا بقتل الآخر. وأن الله ينتظر منهم أن ينحروا بعضهم البعض ليكفروا عن سيئاتهم وخطاياهم، وأننا نعيش زمن ما قبل سيدنا إبراهيم وتقديم الانسان قرباناً لإرضاء الإله.
متأسلمين سياسيين منقسمين على بعضهم ويتصارعون فيما بينهم وكل طرف يقذف الطرف الآخر بأشنع الألفاظ والتهم، وكل منهم يدعم أداوته وبنادقه لقتل الآخر. حتى حولوا مشرقنا الذي كان يوماً ما منبع الحضارة الإنسانية والقوانين والعلوم، حولوه بعقليتهم النتنة إلى “مسلخانة” أو كولوسيوم ومعبد وحلبة الموت روماني.
صراع خفي وعلني ما بين مدن ثلاث تتسابق للفوز بمشروعيتها لتمثل القداسة الإلهية وتسترجعها بعدما فقدتها جراء تخاذل من وصفوا أنفسهم بوماً بالخلفاء المتصارعين على السلطة، منذ الأمويين ومروراً بالعباسيين والعثمانيين والصفويين. “قم” أم “النجف”، لها الأحقية في أن تمثل قسم من المسلمين الشيعة. أم أن “مكة” أو “قسطنطينة” هي من تمثل القسم المتبقي من المسلمين السني. وبين هذا وذاك ينتظر “أزهر” القاهرة ليعلن أنه متمم ومكمل للدين الحنيف.
مقتلة بكل معنى الكلمة تتم في كولوسيوم وحلبة موت ومقتل الانسان تحت اسم الدين والإله الذي ينتظر القرابين من الزعماء والكهنة الذين يحضون الناس على القتال باسم الإله، ليتقاسموا هم الغنائم والنفط وباقي خيرات هذه المنطقة تحت اشراف قوى الهيمنة الغربية والشرقية منها إن كانت أمريكا أو روسيا أو الصين. فلا فرق بينهم سوى بأسلوب السرقة والفساد، ليبقى جوهرهم واحد ومتعمد برأسمالية الدولة والتي لا يهمها سوى الربح الأعظمي ولو على حساب شعوبهم. وكذلك الأدوات التي تنفذ ما هو مطلوب منها ليزيدوا المشهد إثارة بأقوالهم وريائهم ونفاقهم وكذبهم الذي ملَ الشعب منها.
من سوريا والعراق واليمن وليبيا وأرمينيا وأفغانستان والآن أوكرانيا، تستمر المقتلة بوظيفتها والفوضى بانتشارها ضاربة عرض الحائط كافة القوانين والمعايير الإنسانية لمنظمات إقليمية ودولية، كانت يوماً ما تتغنى بقوانينها الرحيمة، وباتت الآن صماء وعمياء وفضلت الصمت رغم كل ما تراه أمام أعينها من جرائم تتم بحق الانسان والمجتمع.
فلا مشكلة كبيرة إن تم قتل البغدادي وقرداش بالقرب من الحدود التركية وضمن مناطق خفض التصعيد التي ضمنتها روسيا وايران وتركيا. شركاء هندسة هذه المنطقة كي تكون الملاذ الآمن لكل الإرهابيين الذين كانوا يعيثون فساداً على الجغرافيا السورية في وقت من الأوقات. الكل يريد أن تبقى “داعش” أو الفصائل ذات المسميات الأخرى، لأن الكل مستفيد من تواجدها ولأنها تأخذ شرعيتها وسبب استمراريتها من بقاء هذه المنظمات الإرهابية على قيد الحياة. لهذا نرى أنه رغم نداء قوات سوريا الديمقراطية المتكرر لكل دول العالم الذين لهم ارهابيهم في معسكر “الهول” أو المعتقلات، بأن يأخذوا مواطنيهم لتتم محاكمتهم هناك. سنوات وقوات سوريا الديمقراطية تنتظر رداً على نداءاتها وصرخاتها، لكن العالم “صمٌ، بكمٌ، عميٌ” لا يفقهون وكأنه لا يوجد شيء خطير يحيط بهم.
عدم المبالاة وعدم الجدية والتقربات غير المسؤولة، هي التي تعطي أردوغان الفرص كي يستثمر بهؤلاء الإرهابيين ويعمل على احتضانهم واطلاق سراحهم من المعتقلات، والتي كانت آخر محاولاته في الحسكة لتهريب الإرهابيين من السجن ونشر الفوضى والقتل ثانية في هذه الجغرافيا. هذه اللامبالاة من قبل الأنظمة الإقليمية في المنطقة هي التي تعطي القوة لأردوغان كي يزداد همجية وتوحشاً وعربدة.
عدم المبالاة من حكام المنطقة من التضحيات التي تقدمها قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد داعش ومختلف التنظيمات الإرهابية والمتطرفة المدعومة من أردوغان، هي بنفس الوقت تعطي القوة لأردوغان كي يقصف مناطق شمال وشرقي سوريا وشمالي العراق ومخمور وشنكال/سنجار.
فاللامبالاة ونظام التفاهة اللتان نعيشهما يجعلان من الانسان يعيش حالة من القلق على وجوده ككائن فعال ضمن مجتمعه الكبير الذي لا يعيره أي انتباه أو مساندة ولو معنوية. ولربما تكون العوامل الداخلية الذاتانية تمثل ثِقلاً كبيراً على الدول او الأطراف والاهتمام بعلاجها، لكن بكل تأكيد أن ما تعانيه المنطقة من أزمات لا يمكن فصلها عن بعضها البعض بتاتاً وإن اختلفت النسبة من مكان لآخر. هي حالة عامة يشتكي منها الكل وفي كل مكان. لهذا ينبغي على الكل أن يقدم أي أشكال الدعم والمساندة وألا يقف مكتوف الأيدي حيّال ما يعانيه أخيه أو جيرانه من مصاعب ومشاكل. مع العلم أن الكل يُقِرّ أن سبب المشاكل التي تعانيها المنطقة بالدرجة الأولى هي ما يمثله أردوغان من حالة وظيفية أداتية تنفذ أجندات ومطامع قوى الهيمنة الغربية. فالتشهير بهذه الوظيفة يعتبر من أكبر المسؤوليات التي تقع على عاتق الجميع وينبغي عدم التعامل مع هكذا شخوص أو أطراف من أجل المصلحة المحلية على حساب المصلحة العامة. فمحاربة أردوغان وعقليته في العلن والتعامل معه من تحت الطاولة ليس له علاقة بالسياسة مطلقاً بقدر ما هو انتهازية فردانية ستودي بصاحبها ولو بعد حين.