كتبت – رندة نبيل رفعت
في الذكرى الثانية والثمانين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وموسكو (26 أغسطس 1943)، تعود العلاقات المصرية – الروسية إلى الواجهة بوصفها واحدة من أكثر الشراكات الدولية قدرة على الصمود والتجدد. فمنذ أكثر من ثمانية عقود، لم تكن العلاقة بين ضفتي النيل والفولغا مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل رصيدًا استراتيجيًا يزداد أهمية كلما ازداد العالم اضطرابًا.
1️⃣ السياسة: توازن الضرورة
يرى الدكتور محمد فايز فرحات، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن العلاقات المصرية الروسية تقوم اليوم على “منطق التوازن”، حيث تسعى القاهرة لتعزيز دورها كفاعل مستقل لا ينحاز كليًا للغرب أو الشرق، وهو ما تلتقي فيه مع موسكو الباحثة عن شركاء موثوقين في الشرق الأوسط وإفريقيا. ويضيف: “مصر تدرك أن العالم يتجه نحو تعددية قطبية، وروسيا ترى أن القاهرة شريك لا غنى عنه في بناء هذا التوازن”.
من جانبه، يصف الخبير الروسي أندريه مارتينوف، الباحث في معهد موسكو للعلاقات الدولية، مصر بأنها “القوة العربية الأكثر استقرارًا”، مؤكدًا أن موسكو تعتبر القاهرة بوابة استراتيجية نحو إفريقيا والشرق الأوسط، لا سيما في الملفات المعقدة مثل ليبيا وفلسطين وسوريا.
2️⃣ الاقتصاد: الضبعة والبحر المتوسط
يقول الدكتور هاني توفيق، الخبير الاقتصادي المصري، إن مشروع محطة الضبعة النووية لا يمثل فقط إنجازًا تقنيًا، بل “استثمارًا في المستقبل”، إذ يضع مصر على خريطة الدول المالكة للتكنولوجيا النووية السلمية، ويعزز استقلالها في مجال الطاقة. ويضيف أن المنطقة الصناعية الروسية في شرق بورسعيد “ستحول مصر إلى قاعدة تصدير إقليمية للمنتجات الروسية”، خاصة مع امتلاكها ممرات تجارية تربط البحر المتوسط بالأسواق الإفريقية.
أما إيلينا سوبونينا، الباحثة الروسية في شؤون الشرق الأوسط، فترى أن التعاون الاقتصادي مع مصر يتيح لموسكو تعويض جزء من خسائر العقوبات الغربية، مشيرة إلى أن: “المشروعات الكبرى مثل الضبعة والمنطقة الصناعية ليست اتفاقيات مؤقتة، بل التزامات استراتيجية لعقود قادمة”.
3️⃣ الأمن: مكافحة الإرهاب كأولوية مشتركة
يؤكد اللواء ناجح فكري، الخبير العسكري المصري، أن مصر وروسيا تتقاطعان في إدراك أن الإرهاب بات تهديدًا عالميًا لا محليًا، ويقول: “منذ مشاورات 2019 و2021، أصبح هناك تنسيق استخباراتي وأمني واضح بين الجانبين، خاصة فيما يتعلق بحماية الممرات البحرية في المتوسط والبحر الأحمر”.
في المقابل، يشير الخبير الأمني الروسي ألكسندر شوميلين إلى أن “مصر بالنسبة لروسيا شريك لا يمكن الاستغناء عنه في مواجهة التهديدات الممتدة من ليبيا ومنطقة الساحل الإفريقي”، معتبرًا أن التعاون الأمني مع القاهرة يمنح موسكو بعدًا إضافيًا في استراتيجيتها الإقليمية.
4️⃣ الثقافة والتعليم: جسر القوة الناعمة
تقول الدكتورة مكارم الغمري، أستاذة اللغة الروسية بجامعة عين شمس والحاصلة على وسام بوشكين، إن “القوة الناعمة الروسية في مصر تعززت عبر الفن والتعليم، لكن الأهم هو التفاعل الإنساني بين الطلاب والمثقفين”. وتشير إلى أن الجامعة المصرية الروسية ومراكز البحوث المشتركة “تجعل التعاون الثقافي رافدًا أساسيًا من روافد الشراكة”.
أما الخبير الثقافي الروسي سيرغي كوزنتسوف، فيصف مصر بأنها “أرض خصبة للتبادل الثقافي”، موضحًا أن العروض الفنية الروسية في القاهرة “لا تُستقبل كحدث فني فقط، بل كتجديد لروابط حضارية بين شعبين”.
5️⃣ المستقبل: نحو معادلة جديدة
يجمع المحللون المصريون والروس على أن العلاقة بين البلدين مرشحة لمزيد من التوسع في ظل المتغيرات الدولية. ففي الوقت الذي تسعى فيه القاهرة للحفاظ على علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا، فإنها تفتح في الوقت ذاته آفاقًا أوسع مع موسكو والصين، وهو ما يجعلها لاعبًا محوريًا في معادلة “التوازن بين الشرق والغرب”.
ويقول الخبير الروسي يفغيني بريماكوف الابن (رئيس الوكالة الروسية للتعاون الدولي): “مصر بالنسبة لروسيا ليست فقط شريكًا استراتيجيًا، بل دولة صديقة قادرة على صياغة جسور حوار بين العالمين العربي والإفريقي من جهة، وروسيا من جهة أخرى”.
بعد 82 عامًا على إقامة العلاقات، يمكن القول إن القاهرة وموسكو لم تعودا تكتفيان بتبادل الزيارات والبيانات المشتركة، بل تعملان على ترسيخ معادلة متكاملة تشمل السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة.
وفي عالم مضطرب تتراجع فيه التحالفات التقليدية، تبدو العلاقات المصرية – الروسية اليوم أكثر تماسكًا واستراتيجية، لتشكل أحد الأعمدة الصاعدة في بناء نظام عالمي جديد يقوم على التعددية والتوازن.
