بقلم: معالي السفير ميكولا ناهورنيسفير أوكرانيا لدى جمهورية مصر العربية
في الثامن والعشرين من يونيو من كل عام، تحتفل أوكرانيا بيوم الدستور، وهو ليس مجرد مناسبة قانونية، بل محطة وطنية تحمل في طياتها أبعادًا تاريخية وسياسية وثقافية عميقة.
فالدستور الأوكراني لم يكن أبدًا وثيقة بيروقراطية فقط، بل هو رمز لاستمرارية الدولة، وضمانة لحماية الحريات، ودعامة أساسية للمسار الديمقراطي الذي اختارته الأمة الأوكرانية.
جذور دستورية ضاربة في عمق التاريخ يعود أول تجسيد للفكر الدستوري الأوكراني إلى عام 1710، حين صاغ الزعيم القوزاقي فيليب أورليك، بمشاركة نخبة من قادة القوزاق، واحدًا من أوائل الدساتير الأوروبية التي أرست مبدأ فصل السلطات وحددت صلاحيات الحاكم المنتخب (الهتمان) وحدود سلطاته.ورغم أن هذا الدستور لم يُطبّق فعليًا بسبب الظروف السياسية والاحتلال الروسي، إلا أنه ترك إرثًا فكريًا عميقًا أسهم في ترسيخ فكرة الدولة القانونية القائمة على الديمقراطية وحكم القانون.
مسيرة دستورية طويلة نحو تقرير المصير شهد القرن التاسع عشر بواكير الحكم الذاتي في أراضي غاليتسيا الخاضعة للإمبراطورية النمساوية المجرية، بينما شكّل دستور عام 1918 لجمهورية أوكرانيا الشعبية خطوة عملية في بناء دولة قانون حديثة تحترم الحقوق والحريات.
وفيما تواصلت المساعي الدستورية رغم الاحتلال السوفيتي، حافظت الجمهورية الاشتراكية الأوكرانية على شكل قانوني مكنها لاحقًا من استعادة استقلالها عام 1991، وسمح لها بأن تكون عضوًا مؤسسًا في الأمم المتحدة، وهو ما أعطى شرعية قانونية لاستقلالها الدولي.
دستور 1996: وثيقة التأسيس للدولة المستقلةفي ليلة تاريخية بين 27 و28 يونيو 1996، أقرّ البرلمان الأوكراني دستور الدولة المستقلة بعد مناقشات صعبة وطويلة. وقد مثل هذا الحدث نقطة تحول حاسمة في بناء أوكرانيا الحديثة، حيث رسّخ مبادئ السيادة، والديمقراطية، وفصل السلطات، واحترام الحقوق والحريات، مع التأكيد على وحدة أراضي البلاد.
دستور حيّ ومتجدد يواكب تطلعات الأمةلم يكن الدستور الأوكراني نصًا جامدًا؛ بل عرف تطورات متتالية، أبرزها إصلاح عام 2004 لتعزيز دور البرلمان، وتعديلات 2019 التي أدرجت خيار التكامل مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو ضمن توجهات الدولة الاستراتيجية.
هذه التعديلات لم تكن فقط قرارات سياسية، بل تجسيدًا لإرادة شعبية راسخة في التمسك بالقيم الديمقراطية والانتماء للمجتمع الأوروبي الأطلسي.
الاستفتاءات المزعومة: لا شرعية تحت الاحتلالينص الدستور الأوكراني صراحة في مادته الـ73 على أن أي تغيير في حدود الدولة يجب أن يتم عبر استفتاء شعبي على مستوى البلاد، ووفق ضوابط قانونية واضحة.
وعليه، فإن ما يُسمى بـ”الاستفتاءات” التي أجرتها روسيا في المناطق الأوكرانية المحتلة (كالقرم، دونيتسك، لوهانسك، زابوريجيا وخيرسون) لا تحظى بأي شرعية قانونية داخل أوكرانيا أو على الصعيد الدولي، وقد جرت تحت التهديد وبغياب الرقابة الدولية، ما يجعلها باطلة شكلًا وموضوعًا.
الدستور في زمن الحرب: صمام الأمان الوطنيفي ظل الحرب المفروضة على أوكرانيا، تحوّل الدستور إلى مرجعية يومية للنضال الوطني، يحمي وحدة البلاد، ويضبط توازن السلطات، ويحافظ على عمل المؤسسات في ظل التحديات.
لقد أثبتت التجربة الأوكرانية أن الدستور ليس فقط قاعدة قانونية، بل أيضًا مرآة لهوية الشعب، وأداة مقاومة في وجه العدوان، ودليلًا على طريق السيادة والكرامة الوطنية.رسالة إلى العالمتجربة أوكرانيا تؤكد أن التمسك بالدستور لا يعني الجمود، بل القدرة على التطوير والمواجهة والمقاومة.
وبين تقلبات العالم وتحديات الجغرافيا السياسية، تبقى القيم الدستورية – من سيادة القانون، والحرية، وكرامة الإنسان، ووحدة الأرض – هي البوصلة التي توجه مسار الدولة، وتلهم الأمم الأخرى في سعيها نحو الاستقلال والديمقراطية.