في حوار استثنائي.. السفير التركي يفك شيفرة التحوّل الدبلوماسي لأنقرة تجاه مصر وليبيا

في حوار استثنائي.. السفير التركي يفك شيفرة التحوّل الدبلوماسي لأنقرة تجاه مصر وليبيا

رندة رفعت

في حوار دبلوماسي اتسم بالهدوء والذكاء، قدّم السفير التركي لدى مصر، صالح موتلو شن، رؤية متكاملة للعلاقات التركية مع القاهرة والدول المحيطة، كاشفًا عن ملامح مرحلة جديدة تُعيد رسم خريطة النفوذ الإقليمي بلغة الشراكة لا المنافسة. حديث السفير لم يكن مجرد تصريحات بروتوكولية؛ بل خطاب محسوب بعناية، يعبّر عن تحوّل استراتيجي في نهج السياسة الخارجية التركية التي باتت تنظر إلى مصر كقطب رئيسي لا يمكن تجاوزه في معادلة الشرق الأوسط.

أكد السفير أن العلاقات بين تركيا ومصر تجاوزت مرحلة التوتر وأن البلدين يدشنان فصلًا جديدًا قوامه المصالح المشتركة والثقة المتبادلة. وأوضح أن البلدين يمتلكان تاريخًا طويلًا من الروابط الثقافية والاجتماعية، وأن المرحلة المقبلة ستشهد تعاونًا متناميًا في مجالات الاقتصاد والطاقة والاستثمار.

ولفت إلى أن حجم التبادل التجاري بين أنقرة والقاهرة يقترب من تسعة مليارات دولار مع خطة طموحة للوصول إلى خمسة عشر مليارًا خلال السنوات القليلة القادمة، مشيرًا إلى أن هذا الهدف ليس مجرد رقم بل مشروع متكامل لبناء شراكة اقتصادية استراتيجية.

تحدث السفير كذلك عن الانفتاح الثقافي والدبلوماسية الشعبية التي تسعى بلاده لتعزيزها في مصر، موضحًا أن الروابط بين الشعبين هي أساس القوة التي يمكن البناء عليها لاستعادة الثقة، وأن الثقافة والفن والتواصل الإنساني يمكن أن يكونوا جسرًا موازياً للسياسة والاقتصاد في تطوير العلاقات بين البلدين. وقد حرص السفير على إبراز البعد الإنساني في الدبلوماسية التركية، من خلال فتح قنوات جديدة للتواصل مع المثقفين والإعلاميين المصريين، في خطوة تعكس رؤية أنقرة الحديثة في بناء علاقات ناعمة تستند إلى القوة الناعمة لا التنافس الصلب.

أما عن الملفات الإقليمية، فقد برز حديث السفير عن القضية الفلسطينية كنقطة التقاء مركزية بين تركيا ومصر، حيث أشاد بالدور المصري في دعم الشعب الفلسطيني وتنسيق الجهود الإنسانية في غزة، مؤكدًا أن موقف أنقرة متطابق في دعم الحل العادل وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس. واعتبر أن هذا التوافق يعزز وحدة الموقف الإقليمي في مواجهة التحديات التي تهدد استقرار المنطقة.

وفي ما يتعلق بالتدخل التركي في ليبيا، كان السفير واضحًا في شرح الموقف التركي، مشددًا على أن أنقرة لم تكن يومًا تسعى إلى صراع أو نفوذ على حساب الآخرين، بل تدخلت بطلب رسمي من الحكومة الشرعية في طرابلس لحماية المدنيين ودعم الاستقرار ومنع انزلاق البلاد نحو الفوضى.

وأوضح أن تركيا ترى في ليبيا دولة شقيقة ومفتاحًا مهمًا للتوازن في البحر المتوسط، وأن وجودها هناك يتكامل مع رؤيتها المشتركة مع مصر لتحقيق الأمن الإقليمي. وأضاف أن التنسيق بين القاهرة وأنقرة في هذا الملف أصبح اليوم أكثر نضجًا وواقعية من أي وقت مضى، في ظل إدراك الطرفين أن استقرار ليبيا يخدم مصالحهما المشتركة ويعزز أمن المنطقة بأسرها.

ومن اللافت أن لغة السفير كانت هادئة لكنها تحمل ثقة مميزة؛ فهو يتحدث بوعي عن الماضي دون أن يغرق فيه، ويرسم للمستقبل معالم جديدة تستند إلى مزيج من الحزم والمرونة.

لم يتحدث كدبلوماسي يسعى لتلطيف الأجواء، بل كممثل لدولة واثقة من قوتها تسعى لبناء تفاهمات قائمة على التكافؤ والاحترام المتبادل. في كل جملة من حديثه بدا أن تركيا لم تعد تتعامل مع مصر كدولة مجاورة فقط، بل كشريك إستراتيجي يمكن أن يُبنى معه شرق أوسط جديد أكثر توازنًا واستقرارًا.

وفي ختام الحوار، شدد السفير على أن العلاقات بين أنقرة والقاهرة لم تعد خيارًا دبلوماسيًا، بل ضرورة جيوسياسية تفرضها الجغرافيا والمصالح والتحديات المشتركة. فالتعاون في مجالات الطاقة والبحر المتوسط، وإعادة الإعمار في ليبيا، ودعم القضية الفلسطينية، كلها ملفات تُثبت أن روح الشراكة بدأت تتجاوز الحواجز القديمة.

إنها رؤية تركية جديدة تتحدث بلغة المصالح الذكية والدبلوماسية الهادئة، وتؤكد أن الشرق الأوسط مقبل على مرحلة مختلفة عنوانها التعاون لا الصدام، وأن القاهرة وأنقرة معًا يمكن أن تكونا مفتاح هذا التحوّل التاريخي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: