رندة نبيل رفعت
في لحظةٍ مشحونة بالتوترات الإقليمية والرهانات الدولية، يعود البحر الكاريبي مجددًا إلى واجهة المشهد الجيوسياسي العالمي، ليس كساحلٍ استوائي يقطر سلامًا، بل كمنطقة تتأرجح على حافة صدامٍ استراتيجي جديد بين واشنطن وكاراكاس.
فوجود قطعٍ بحرية أمريكية تحمل رؤوسًا نووية في مياه الكاريبي، أثار مخاوف حقيقية من انزلاق المنطقة إلى سباق تسلّح جديد يهدد الأمن الإقليمي والدولي على حد سواء، ويعيد إلى الأذهان أجواء أزمة الصواريخ الكوبية في ستينيات القرن الماضي، حين وقف العالم على حافة الهاوية النووية.
ترى فنزويلا أن ما يحدث اليوم ليس مجرد استعراض قوة أمريكي، بل محاولة مقنّعة لفرض وصاية سياسية جديدة على دول أمريكا اللاتينية تحت شعار “الأمن الإقليمي”.
وقد وجّهت كاراكاس رسالة حادة إلى الأمم المتحدة تتهم فيها الولايات المتحدة بانتهاك معاهدة تلاتيلولكو التي نصّت على جعل أمريكا اللاتينية والكاريبي منطقة خالية من الأسلحة النووية، معتبرةً أن هذا الوجود العسكري النووي يهدد السلم العالمي، ويمثّل انتهاكًا صارخًا لسيادة الدول.
لكن خلف هذه التحركات العسكرية يكمن صراع أعمق يتجاوز البعد الأمني. فالإدارة الأمريكية الحالية — بقيادة دونالد ترامب — تعيد إحياء عقيدة “مونرو الجديدة”، تلك الفكرة التي تعتبر أن “الأمريكتين للأمريكيين”، أي تحت الهيمنة السياسية والاقتصادية لواشنطن وحدها.
وبحسب المحلل الأمريكي إدوارد لويس من معهد العلاقات الخارجية (CFR)، فإن “التحركات الأخيرة ليست مجرد مراقبة للنفوذ الروسي أو الصيني في فنزويلا، بل مشروع لإعادة تثبيت التفوق الأمريكي في نصف الكرة الغربي بعد عقودٍ من الانكفاء النسبي”.
في المقابل، تَعتبر فنزويلا أن هذه الضغوط ليست سوى حلقة من مسلسل طويل يستهدف تفكيك استقلالها السياسي والاقتصادي. فمنذ أن تبنّت كاراكاس نهجًا مناهضًا للهيمنة الغربية ودعمت تحالفاتها مع روسيا والصين وإيران، أصبحت هدفًا مباشرًا لمحاولات احتواء متكررة.
وقد بلغت تلك المحاولات ذروتها مؤخرًا في ما وُصف بمحاولة لاختطاف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، عبر خطة تضمنت رشوة أحد الطيارين العسكريين لإخراجه من البلاد، وهو ما وصفته الحكومة بـ“محاولة اغتيال سياسي تحت غطاء استخباراتي أمريكي”.
هذا الحدث، وإن بدا في ظاهره عملاً معزولاً، فإنه يعكس نمطًا متكررًا في تعامل الولايات المتحدة مع خصومها في أمريكا اللاتينية — من نيكاراغوا وكوبا إلى بوليفيا وفنزويلا — حيث يتم الدمج بين الضغط الاقتصادي، والحرب النفسية، والاختراق الاستخباراتي.
وقد أكّد تقرير لصحيفة واشنطن بوست أن الرئيس ترامب منح وكالة الاستخبارات المركزية (CIA) صلاحيات موسعة لإدارة عمليات سرية في فنزويلا، تحت ذريعة “مكافحة الإرهاب والمخدرات”، في خطوة أثارت قلق خبراء الأمن القومي الأمريكيين أنفسهم الذين حذروا من “تكرار سيناريوهات تدخلية انتهت بالفوضى لا بالنصر”.
من جانبه، يرى الخبير العسكري الأمريكي الجنرال المتقاعد مايكل دوغلاس أن “تواجد الغواصات النووية في الكاريبي لا علاقة له بمحاربة تهريب المخدرات كما تدّعي واشنطن، بل هو رسالة مزدوجة لروسيا والصين اللتين تستثمران بكثافة في البنية التحتية والنفط الفنزويلي”.
ويضيف دوغلاس أن “الولايات المتحدة تخشى من تحوّل كاراكاس إلى بوابة نفوذ روسي في القارة اللاتينية، تمامًا كما كانت كوبا في الستينيات”.
وفي هذا السياق، تبدو “السيادة المستقلة” التي تتحدث عنها فنزويلا وكأنها تُختبر بأقسى صورها. فكل محاولة للدفاع عن استقلال القرار الوطني تُقابل بإجراءات عقابية جديدة، من تجميد الأصول إلى تشديد العقوبات النفطية.
وبينما تبرر واشنطن هذه السياسات باعتبارها “دفاعًا عن الديمقراطية”، يراها كثير من الساسة اللاتينيين إعادة إنتاج لسياسات التدخل الكلاسيكية التي أرهقت شعوب المنطقة لعقود طويلة.
اللافت أن التحركات الأمريكية في الكاريبي تتزامن مع سباق نفوذ عالمي يتجاوز الإقليم. فبينما تحاول الصين تعزيز حضورها الاقتصادي في القارة عبر مبادرة “الحزام والطريق”، ترد واشنطن بتمركز عسكري ونووي يهدف إلى تطويق هذا النفوذ، ما يجعل الكاريبي ساحة صراع غير معلنة بين قوى كبرى. وفي هذا المناخ، تصبح فنزويلا — بثرواتها النفطية الهائلة وموقعها الجغرافي الحساس — أشبه بجوهرة جيوسياسية تتقاطع عندها مصالح متعددة.
يقول الخبير الدولي في العلاقات الأمريكية اللاتينية جورج مارتينيز: “إن ما يجري اليوم حول فنزويلا يعيد تعريف معنى السيادة في القرن الحادي والعشرين. فالقوة النووية لم تعد سلاح ردع فقط، بل أداة ضغط جيوسياسي لتطويع الدول وإعادة صياغة خرائط النفوذ.” ويضيف أن استمرار هذا النهج سيقود حتمًا إلى زعزعة الاستقرار ليس في الكاريبي فقط، بل في مجمل النظام الدولي القائم على التوازن والردع المتبادل.
من هنا، يمكن القول إنّ الأزمة الفنزويلية لم تعد شأنًا داخليًا أو نزاعًا دبلوماسيًا عابرًا، بل تحوّلت إلى اختبار عالمي لمفهوم الاستقلال والسيادة في وجه القوة النووية.
فكل خطوة أمريكية جديدة في الكاريبي تُقابَل بردّ سياسي في كاراكاس، وصمتٍ دوليٍّ حذر، وقلقٍ متصاعد في عواصم العالم من احتمال انزلاق هذه المنطقة الحساسة إلى مواجهة مفتوحة.
وهكذا، يتجاوز المشهد حدود السياسة التقليدية إلى صراعٍ على الوجود ذاته: بين دولة تصرّ على الدفاع عن كرامتها وسيادتها، وإمبراطورية عادت لتذكّر الجميع بأنّها لا تزال اللاعب الأكبر في نصف الكرة الغربي.
وبين هذين النقيضين، يقف العالم متأملاً — كما وقف ذات يوم في أزمة الصواريخ الكوبية — متسائلًا: هل يكرر التاريخ نفسه ولكن بوجوه جديدة وأسماء مختلفة؟

 
                     
             
                                         
                                        