رندة رفعت
ثمانية عقود مضت منذ أن أعلن مصطفى كمال أتاتورك قيام الجمهورية التركية، فاتحًا فجرًا جديدًا في تاريخ أمةٍ قاومت الانكسار لتولد من رماد الحرب دولةً قوية وموحدة.
واليوم، ومع احتفال أنقرة بالذكرى الـ 102 لتأسيس جمهوريتها، لا تحتفي تركيا بمجرد تاريخٍ من الإنجازات، بل تؤكد استمرار روح النهضة التي صاغت شخصيتها الوطنية والإقليمية والدولية.
منذ لحظة التأسيس، أدركت تركيا أن قوتها الحقيقية لا تُقاس فقط بما تملكه من جيش أو اقتصاد، بل بقدرتها على التحول الفكري والمدني الذي يجعلها جسرًا بين حضارتين، ومركز ثقلٍ في توازنات الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.
خلال 102 عامًا، نضجت التجربة التركية حتى أصبحت نموذجًا فريدًا لدولة تجمع بين العلمانية المتنورة والهوية الإسلامية المعتدلة، وبين الديمقراطية الحيوية والطموح التنموي الذي لا يتوقف.
اليوم، تتحدث تركيا إلى العالم بلغة الفعل لا الشعارات:
اقتصادها بين الأقوى في مجموعة العشرين، وصناعاتها الدفاعية تُنافس القوى الكبرى، ودبلوماسيتها تمارس دور الوسيط الفاعل بين الشرق والغرب، من البحر الأسود إلى المتوسط، ومن غزة إلى القوقاز.
لكن ما يجعل التجربة التركية أكثر عمقًا هو إدراكها المتجدد لأهميتها في الفضاء العربي والإسلامي.
فالعلاقات التركية العربية لم تعد مجرد علاقات دبلوماسية أو اقتصادية، بل أصبحت حوارًا مفتوحًا بين حضارتين تربطهما الذاكرة والمصير المشترك.
تركيا اليوم تمد يدها إلى محيطها العربي بروح التعاون لا الوصاية، وبفهمٍ استراتيجي يرى أن استقرار المنطقة العربية هو شرط أساسي لازدهارها، وأن أمنها القومي لا ينفصل عن أمن جوارها العربي والإسلامي.
وفي ظل التحديات التي تعصف بالعالم، تواصل أنقرة تقديم نفسها كنموذج لدولة تجمع بين الانتماء الحضاري والبراغماتية السياسية، دولةٌ تتحدث بلغة المبادئ في عالمٍ تتزايد فيه لغة المصالح.
منذ أتاتورك حتى اليوم، بقيت السياسة الخارجية التركية مخلصة لشعارها الخالد:
“السلام في الوطن، السلام في العالم.”
إن احتفال تركيا بمرور 102 عامًا على تأسيس جمهوريتها ليس مجرد مناسبة وطنية، بل تأكيدٌ على أن الدولة التي وُلدت من رحم الصراع باتت اليوم صانعة للتوازن في الشرق الجديد.
وبينما تتجه الأنظار إلى المستقبل، تبدو تركيا أكثر ثقة في موقعها ودورها، وأكثر تصميمًا على أن تكون صوت الاعتدال والنهضة في محيطٍ يحتاج إلى منارةٍ تضيء طريقه.

 
                     
             
                                         
                                        