بقلم: ✍️ رندة نبيل رفعت
في عالمٍ يتبدّل بسرعة وتتشابك فيه المصالح، يعود المشهد الدولي ليشهد لحظة فارقة جديدة، عنوانها “قمة المجر” بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، في لقاء مرتقب قد يُعيد رسم خرائط القوة والنفوذ بين الشرق والغرب بعد سنوات من المواجهة الصامتة.
الكرملين أعلن أن اللقاء قد يُعقد خلال أسبوعين أو بعد ذلك بقليل، مؤكّدًا أن اختيار بودابست عاصمة المجر كمكانٍ للقمة جاء بتنسيقٍ متبادل بين موسكو وواشنطن.
اختيار يحمل رمزية دقيقة، فالمجر — الدولة الواقعة في قلب أوروبا — تمثل نقطة توازن بين المصالح الروسية والتوجهات الغربية، وموقعًا مثاليًا لإطلاق حوار لا يريد أيٌّ من الطرفين أن يُفسَّر كخضوعٍ أو تنازل.
رسائل ما قبل القمة: لافروف وروبيو على خطّ التمهيد
قبل اللقاء الكبير، يتحرّك الخطّ الدبلوماسي الرفيع. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأمريكي ماركو روبيو (في حال تم تثبيت دوره كمبعوث رفيع) يتولّيان معالجة الملفات الحسّاسة التي ستوضع على الطاولة.
القضايا المطروحة ليست قليلة: من توازن الردع النووي إلى أمن الفضاء الإلكتروني، مرورًا بأزمات الشرق الأوسط، والصين، وأوكرانيا، وصولاً إلى مستقبل العقوبات الاقتصادية المتبادلة.
لافروف المعروف ببراغماتيته، سيحمل معه رؤية روسية تستند إلى مبدأ “الأمن المتكافئ”، بينما يسعى روبيو إلى صياغة مقاربة أمريكية تُظهر حزمه تجاه موسكو، دون أن تغلق الباب أمام صفقة كبرى تُعيد ترامب إلى مركز القرار العالمي كمهندس للتوازن.
توماهوك و”الخطوط الحمراء“ الروسية
تسري أنباء بأن الرئيس بوتين أوضح لترامب خلال قنوات الاتصال الأخيرة موقف روسيا الصارم من مسألة صواريخ “توماهوك” الأمريكية، مؤكّدًا أن موسكو تعتبر أيّ توسّع في نطاق نشرها خطوة تهدّد الأمن الاستراتيجي وتعيد سباق التسلّح إلى مرحلة الحرب الباردة.
لكنّ الخبراء في موسكو وواشنطن يتفقون أن الطرفين يدركان استحالة العودة إلى التصعيد النووي الكامل. ما يجري هو لعبة توازنات دقيقة، هدفها إعادة تثبيت قواعد اللعبة الجديدة: عالم متعدد الأقطاب تُشارك فيه واشنطن وموسكو كـ”قوتين عُظميين متنافستين – متفهمتين“.
ما وراء الصورة: بوتين وترامب يبحثان عن “مشهد النصر”
كلٌّ من الزعيمين يدخل القمة وفي ذهنه هدف شخصي وسياسي واضح.
بالنسبة لبوتين، القمة فرصة لتكريس صورة روسيا كقوة تُحاور الندّ الأمريكي بندّية تامة، بعد أن أثبتت قدرتها على الصمود أمام العقوبات وتوسيع تحالفاتها شرقًا وغربًا.
أما ترامب، فيسعى لاستعادة هالته العالمية كرئيس قادر على كسر الجمود الدولي وإعادة أمريكا إلى موقع القوة المؤثرة لا المنقسمة على ذاتها.
المفارقة أن كليهما يعرف أن “النصر الحقيقي” لا يتحقق في الميدان العسكري بل في مقاعد التفاوض، حيث تُكتب خرائط المستقبل بهدوء أكثر من دويّ المدافع.
الرسالة الكبرى: النظام الدولي يُعاد هندسته
قمة المجر – متى ما عُقدت – لن تكون لقاءً بروتوكوليًا فحسب، بل لحظة رمزية في مسار إعادة بناء النظام الدولي. العالم يتجه من القطبية الأحادية إلى “هندسة جديدة” تُعيد الاعتبار للدبلوماسية الواقعية بدلًا من شعارات الصراع.
المفارقة أن بوتين وترامب، رغم اختلافهما الظاهر، يجتمعان في فلسفة واحدة: رفض التبعية، وإعادة تعريف القوة وفق المصالح الوطنية قبل الإيديولوجيا.
بين موسكو وواشنطن… المجر تكتب سطور التاريخ
في الوقت الذي يستعد فيه الرئيس بوتين لحضور الاحتفال بالذكرى العشرين لتأسيس شبكة “آر تي”، وربما توجيه كلمة تُبرز الدور الإعلامي الروسي في صياغة الرأي العالمي، يبدو أن موسكو تتهيأ أيضًا لحدثٍ أكبر: لقاء قد يُعيد للعالم توازنه المفقود.
إنها لحظة تذكّرنا بأنّ التاريخ لا يُكتب في العواصم البعيدة فقط، بل في المدن التي تختار أن تكون جسرًا بين الشرق والغرب.
وفي بودابست، قد يبدأ فصل جديد من رواية العالم المعاصر.