التحول الأمـمـي والتحول الرقمي

التحول الأمـمـي والتحول الرقمي

✍د. صلاح الدين المحمدي

بصفتي متخصصاً في تكنولوجيا المعلومات، وخبيراً في التحول الرقمي، فقد نشرت سلسلة مقالات عن التحول الرقمي، وقد ذكرت في أول مقال، أن التحول الرقمي هو الموضوع الأكثر تداولاً، والأعلى تناولاً خلال هذا العقد من الزمان، وأن الاستثمارات فيه بلغت تريليونات الدولارات، وأن الدراسات الميدانية، والأبحاث العلمية تؤكد ضرورة السير في ركاب رحلة التحول الرقمي، لتستطيع الحكومات والمنظمات والشركات الصمود والبقاء، والاستمرار والنماء، في ظل هذه البيئات المتقلبة التي أصبح فيها الشيء الثابت هو التغير، والأمر المؤكد هو عدم التأكد.


ويمكنكم الرجوع إلى الهاشتاج #التحول الرقمي المحمدي للاطلاع على تفاصيل هذا الموضوع (التحول الرقمي: 1️⃣تعريفاته، 2️⃣استثماراته، 3️⃣أدواته، 4️⃣تحدياته، 5️⃣تطبيقاته، 6️⃣تأثيراته، 7️⃣قيادته). علماً بأن سلسلة هذه المقالات، هي مشروع كتاب، سيصدر عما قريب إن شاء الله باللغتين العربية والانجليزية، وقد سميته المنهجية السباعية للتحول الرقمي

✋لكن ما التحول الأممي؟
وما علاقتة بالتحول الرقمي؟

ولنبدأ بالإجابة عن العلاقة بينهما.
إن التحوُّلَين الأمميَّ والرقميَّ كِلَيهما يبني مستقبلاً جديداً للكيانات، سواء كانت حكومات أو شركات بالنسبة للتحول الرقمي، أو أمماً وشعوباً بالنسبة للتحول الأممي.

ولقد غصتُ في الأعماق، وحلّقت في الآفاق في سلسلة مقالاتي عن التحول الرقمي، ودعوني أركز في هذا المقال باختصار على التحول الأممي.

نعيش هذه الأيام ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان مولده بدايةً لحدوث هذا التحول الأممي للعرب والبشرية جمعاء.

لقد كان المولى سبحانه وتعالى يعلم حيث يجعل رسالته، فاختار هذا النبي الأميَّ ليقوم بعملية تحول أممي، فحوَّل العرب من رعاة غنم إلى قادة أمم.

فكيف حدث هذا التحول الأممي؟
بداية يجب أن نشير إلى أن التحول الأممي أهم وأعظم من التحول الرقمي، فالأول تحول في المبادئ والتصورات والتصرفات، والثاني تحول في العمليات والآليات والتقنيات.

لقد كان التحول الأممي تحولاً ضخماً جعل الضعيف قوياً، والذليل عزيزا، والمغمور مشهورا، والجاهل متعلما، والمستضعَف مُمَكَّنا، والتابع متبوعا.

لقد كان تحولاً، وليس تغيرا، صنع مستقبلاً جديداً للعرب خاصة، وللبشرية عامة.


تحولاً كان القرآن الكريم، وتربية الرسول العظيم هي أداتَه ورافعتَه، فارتقت بتلك البيئة، وذلك الجيل من السذاجة في التفكير والتصور والشعور والسلوك، خلال مدة لا تزيد عن ثلاثين عاماً، وهذه الفترة في حياة الأمم ومضة لا تُذكَر.


لقد كان أعظم تحول في التاريخ جعل ذلك الجيل – الذي كان متقوقعاً في مكة والمدينة – خلال هذه الفترة القصيرة من الزمن يطرق أبواب الصين شرقا، وأبواب الأندلس غربا.

ويظل السؤال قائماً، كيف حدث هذا التحول الكبير؟
وما هـي (الظروف) التي أعانت على التحقق: استيعاب مذهل للعقل البشري، لتغيرات جذرية، مكنته من إعادة التشكل والتحول وفق صيغ جديدة لم يألفها قبلُ إنسان؟!


إننا نستطيع أن نحظى ببعض الإضاءات المركزة التي تعين على الجواب.. إن هذا الدين منح المنتمين إليه قدرات إضافية لتجاوز حيثيات الزمان والمكان، للتحول من الواقع الموجود إلى المستقبل المنشود مروراً بالمسار المقصود.. وهو السُّلّم ذو الدرجات الثلاث الذي رسمه لهم، والذي يبدأ بالإسلام، ثم الإيمان، وينتهي بالإحسان.. هـنالك حيث التكشف الكامل، والإبداع التام، والتقابل الذي لا يحجبه شيء بين الله والإنسان.. ( أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ..

“إن الناس في الأعم الأغلب، يمشون إلى أهدافهم، أو يهرولون إليها، ولكننا نرى هـنا أناسًا يركضون.. لقد بعث الإسلام أجيالًا من العدائين الذين عرفوا كيف يحطمون الأرقام القياسية وهم يجتازون الموانع والمتاريس، ويقطعون المسافات الطوال… إن القرآن الكريم نفسه يصفهم بأنهم ( يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ) (الأنبياء:90) ، وأنهم ( … وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) (المؤمنون:61) .. فها نحن بصدد مؤشرين للسرعة، والإنجاز: المسارعة، والمسابقة..


📗من كتاب نحو إعادة تشكيل العقل المسلم – د. عماد الدين خليل بتصرف.

استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن الكريم، وبتوجيهه الحكيم أن ينشئ جيلاً مباركاً، استحق شهادة تزكية من المولى سبحانه وتعالى بقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ …} الآية،[آل عمران : 110]، واستحق شهادة رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:(خيركم قرني).

لقد استحق ذلك الجيل المبارك تلك الشهادة الكريمة، لأنه جيل جمع بين المثال والواقع، فترجم مثاليات الإسلام إلى واقع، وارتفع بالواقع البشري إلى درجة المثال.

وبهذه المواصفات كان ذلك الجيل المبارك مؤهلاً لقيادة البشرية، فارتفع بإيمانه وأخلاقه إلى القمة التي لم يصلها جيل قط على مدى التاريخ، لا من ناحية التصورات، ولا من ناحية التصرفات التي كانت نتيجة منطقية، وثمرة طبيعية لتلك التصورات التي جاء بها القرآن العظيم، وسنة رسوله الكريم، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم البشرية قاطبة بين جوانحها في سماحة وعطف، ولين ولطف، لا تشديد ولا عنف.

إنها معجزة تتجلى في ذلك التحول الأممي الهائل من السطح والضيق، إلى العمق والشمول، وهو تحوُّل أوسع وأكبر من التغير من القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، لأنه تحوُّل بنى مستقبلاً جديداً بفكر جديد، وتصور جديد، وسلوك جديد.

وبهذا التحول، أشرقت تلك الومضة العجيبة في التاريخ، ووُجِدت تلك الحقيقة التي تتراءى من بعيد، وكأنها حلم مرفرف في قلب، أو رؤيا مُجنِحة في خيال.

🤲اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد صلاة تحوِّلُنا فيها من الذل إلى العز، ومن الضعف إلى القوة، ومن التمسكُن إلى التمكُّن، ومن السياقة إلى القيادة.

صلى عليه إلهُ العرش ما صدحت
حمامةٌ أو شـــدا بالفجـر طِخميلُ

الطخميل: الديك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

%d مدونون معجبون بهذه: