بقلم: رندة نبيل رفعت
لم تكن مشاركتي في مهرجان جرش هذا العام مجرّد حضور لحفل غنائي.
كانت ميادة الحنّاوي، للمرّة الأولى، على المسرح أمامي… لكنها لم تكن مجرد فنانة تصعد لتغني. كانت ذاكرة تمشي على الأرض، تحيي ماضياً لا يموت، وتعيد إلى الحاضر أنين لحنٍ لا يُنسى، ووجع قصةٍ لا تزال تنبض.
لم تكن الأغنيات التي صدحت بها ميادة مجرد فن، بل سرد حميمي لحكاية عاشها اللحن والكلمة والمُلحّن. كانت روح بليغ حمدي حاضرة، بكل شغفه وجنونه، بكل ما تركه لنا من مرافئ حنين لم تهدأ. كأن بليغ كان يقف هناك، في زاوية مظلمة من المسرح الروماني، يُنصت لأنفاس الجمهور، ويبتسم لذلك الحزن الذي يعبر الصوت دون استئذان.
أن ترى ميادة تغني لبليغ، هو أن تشهد كيف يتحوّل الغياب إلى حضورٍ كثيف.
كيف يُصبح الحب المكسور، والحنين المؤجل، والموسيقى التي لم تكتمل، موادًا خامًا لفنّ خالد.
هو أن تسمع “بودّعك… وبودّع الدنيا معك…” وتدرك أن الصوت الذي ودّع بليغ حين رحل، هو نفسه الذي يعيد إليه الحياة كلما صدح.
وفي لحظة أخرى، حين ترتفع نغمة “الحب اللي كان”، لا تعود الأغنية مجرد تذكير بعلاقة انتهت، بل ردّ فني راقٍ على صمتٍ جارح. تلك الأغنية التي كتبها ولحنها بليغ بعد أن سُئلت وردة: “من بليغ؟”، فأجابت ببرود: “مين بليغ؟”.
ردّ بليغ لم يكن بكلمة، بل بأغنية موجعة قال فيها: “نسيت اسمي كمان؟ أنا الحب اللي كان.”
هذه ليست حفلة… بل طقس فني عميق.
لحظة يختلط فيها الفن بالتاريخ، والمسرح بالذاكرة، والغناء بالحضور الإنساني البسيط والعظيم في آن.
في جرش 39، لم نأتِ لنطرب فقط، بل جئنا لننصت إلى وجعٍ جمعيّ، إلى قصة حبّ فريدة، إلى حنينٍ يرفض أن يُنسى.
في جرش، عاد الماضي بكلّ عنفوانه،
وصعد بليغ من غيابه،
وسكبت ميادة صوتها على المسرح كأنها تُطهّر أرواحنا من الفقد.
لمن يعرفون التأمّل… كانت تلك لحظة لا تُقدّر بثمن.
لمن جرّبوا الحنين… كان جرش 39 مرآةً صافية لقلوبهم.
ولمن يؤمنون أن الفنّ يخلّد من نحب، فقد عاد بليغ، وغنّى الغياب معنا… ومن خلالنا.