محمد أرسلان علي
ربما كانت المسلمات المعلومة التي تفيد بأن منطقة ميزوبوتاميا (الشرق الأوسط) وشمالي أفريقيا لعبت دوراً في تطور الفكر والوعي الإنساني والتي ابتدأت من اختراع الكتابة ببدئيتها الصورية فالرمزية ومنها إلى الحروب وتطورها إلى ما وصلت إليه الآن. حيث تم اعتبار الكتابة واللغة واللتان هما من نتاج التطور الفكري والوعي للإنسان على هذه الجغرافيا، كانت الدافع والحافز للتفكير بتطوير وسائل وأدوات الإنتاج البدائية ووصولها الآن إلى ما هي عليه مقرونة بالتطور التكنولوجي والتقني والتي بعض الأحيان لا يستوعبها عقل الانسان بحدِ ذاته. هذه المنطقة الولاّدة للفكر والتطور وأولى الجغرافيا التي نشأت عليها القرى والمدن وظهور فلسفات الحياة وأخلاقياتها وأديانها الطوطمية إلى التوحيدية، كانت مهد الحضارة البشرية ومنها انتشرت إلى الأطراف وما رافقها من عمليات تحديث عليها واستنساخها بعض الأحيان وفق ظروف وثقافات تلك المناطق.
ورغم كل هذه التراكمات المعرفية والفكرية التي لا زلنا نتغنى بها ولا ننفك متشبثين بها حتى حالة أننا بتنا أسرى لتلك المرحلة من الزمن ولا نريد التخلص منها أو تجاوزها بعد آلاف السنين من مرورها. حالة تجعلنا نعيد البحث والدراسة حول هذا الأمر في مدى ارتباطنا بالماضي من دون أن ننظر للحاضر مع غياب رؤيتنا للمستقبل بشكل عام. هل الخوف مما هو قادم هو ما يجعلنا أن نزداد ارتماءاً للماضي والتاريخ أو أننا لم نؤهل ذاتنا ونصقلها جيداً كي نكون عناصر لائقين ومنفتحين لدخول المستقبل من بوابته الفكرية. هذه البوابة التي لا تفتح مصراعيها للمتعلقين بعقلية الماضوية بقدر ما هي ترحب بالأفكار المتقدمة التي تمتلك مشاريع وخطط مستقبلية يكون بمقدورها مواكبة التطور الفكري والتقني كي يكون لها موطئ قدم في عالم المستقبل.
هذا الارتباط بالماضوية ما هو إلا إصرارٌ على نبذ كل ما يمت بصلة عن تغيير العقلية ونقد كل ما علق فيها وعليها من أفكار عفا عنها الزمن ورحل. كمية التراث والحضارة والعلوم التي بدأت من هذه المنطقة هي قوة مادية ومعنوية لنا من أجل إعادة تدويرها لتكون متوائمة مع ما نعيشه في راهننا، لكن الإصرار على ابقائها كما هي من دون تغيير أو حتى تنظيفها من العوالق وغبار السنين، يثبت أننا لا نريد الخروج من شرنقة الجهل والتعفن الفكري والمعرفي الذي أصابنا وكأن رائحة العفن أعمت بصيرتنا وجعلتنا سكارى وما نحن بسكارى لكنه التاريخ الذي لا يرحم أحداً بتاتاً.
منذ قرون عديدة وكثير من الفلاسفة نبهونا وأنبأونا بأننا إن لم نصلح حالنا وأحوالنا فلن تقوم لنا قائمة وسيكون دائما مكاننا أمام عتبات الشعوب الأخرى، متسولين التطور منهم علَّهم يعطفون علينا بنتاجاتهم الفكرية والمعرفية وحتى الأخلاقية. نعيش في بلدان يعمّها الخوف على حساب الأمن والعدل. حيث يعتقد الحكام أنهم إذا نشروا الخوف في المجتمع تزداد السيطرة عليهم ولا يمكن أن يخرجوا عن القطيع، وعن هذا الأمر قال بن خلدون في مقدمته: “الخوف يُحي النزعات القبلية والمناطقية والطائفية، والأمن والعدل يلغيها”. حيث في مجتمع الخوف تنمو وتزدهر النزعات العرقية الصراعات الطائفية والأثنية، لأن الشعوب تشعر أن لا مستقبل ينتظرها سوى أن تكون منقادة للسلطان والزعيم الخالد الذي هو فقط يعرف ماذا تريد المجتمعات. قررنٌ وبلداننا تعاني الخوف من كلِ شيء حتى من نفسها. خوف من الاعتقال وخوف من الجوع والفقر والتشرد والتهجير، وخوف الشعوب من بعضها البعض، وخوف ما بعد الموت. هذا ما يسيطر على المجتمعات من خول الداخل، أما خوف الخارج فحدث ولا حرج من المؤامرات الكونية والدولية التي تحيط بنا من كل صوب وحدب. خول من الامبريالية والصهيونية والطورانية والجماعات الدينية المتطرفة وغيرها الكثير من عوامل الخوف التي تخنق المواطن وهو في سريره يحاول أن ينام ليلته من دون خوف. قرن من الخوف من الفقر على حساب ان نتسلح ونُعِدُّ العدة لإرهاب عدو الله. لكن في النهاية عرفنا أننا نحن فقط هم أدوات المؤامرة الدولية وليست الامبريالية والعقلية القيصرية ولا الصهيونية. فتم توجيه السلاح للشعوب والمجتمعات من قبل الكل من دون استثناء لجعلنا قرابين على مذابح أجنداته وأطماعه. وبقينا وجهاً لوجه نواجه دولاً منهارة وأنظمة كرتونية ليس لها أية أرضية قوية متماسكة إلا أن تتكئ على هذا الطرف أو تلك القوة. في هذه المرحلة شهدنا الكثير ممن ادعوا الثورة على الأنظمة الاستبدادية، لكنهم تحولوا إلى مستبدين أكثر من الزعماء وهم ما زالوا في مسيرتهم الأولى. ولم يعد ما نراه له أية علاقة بالثورة وبناء الوطن الجديد. ما أروع ما وصفه بن خلدون ووصفه لنا وكأنه يعيش معنا ويذكرنا بما قاله قبل قرون عدة: “عندما تنهار الدول يكثر المنجّمون والأفّاكون والمتفيهقون والانتهازيون وتعمّ الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوّش الفكر”. وهو ما نعيشه بكل تفاصيله هذه، وما نراه ما هو سوى استمرار انهيار الدول الفاشلة والهشة التي حسبناها يوماً أنها كالطود والصخرة التي ستتحطم عليها مخططات المتآمرين الكونيين. فلم نرَ إلا جماجمنا هي التي تتحطم على صخرة الدولة القومجية التي تم بناؤها على حساب الانسان.
إنه الجحيم بحد ذاته ما نعيشه الآن ولا اعتقد أن جحيماً أخرى سوف تعيشها الشعوب أكثر من هذا العقاب الذي بات يلحقنا جراء ما زرعناه بأيدينا. ربما نستحق ما يحيط بنا من دمار وخراب وقتل ونحر وتهجير أو أننا قرابين عقليتنا التي كنا نعتقد أنها لن تتخلَ عنّا أوقات المحن والمصاعب. الحكام والأنظمة ربما كان نحن من صنعناهم ولم نقول لهم يوماً “لا”، بل كنا من المصفقين باستمرار على أساس أنهم يمتلكون ناصية الحكم والعدل ويشقون طريقنا نحو المستقبل الرغيد. لكن ما نعيشه لا يمكن وصفه إلا جحيم دانتي التي وصفها بتفاصيلها الدقيقة بطبقاتها ومستوياتها وما يعانيه من بداخليها في رائعته “الكوميديا الإلهية”. وبكل تأكيد كان لفلسفته اللاهوتية المسيحية تأثير كبير فيما كتبه في تلك الملهاة وكذلك الفلسفة اليونانية والإسلامية، لتبقى هذه الملحمة الشعرية حتى راهننا من أعظم ما تم كتابته في وصف حال وأحوال من يدخلون جحيم دانتي.
في المستوى السابع في رحلة دانتي مع صديقه فيرجيل في الجحيم يروي لنا ما يراه قائلاً: “هناك يريان من ارتكبوا جرائم العنف يكادون على الدوام يغرقون في نهر من الدناء مضطرب صاخب، ويرميهم القنطورون بالسهام كلما علت رؤوسهم فوق ماء النهر. وفي قسم آخر يريان من ارتكبوا جرائم العنف ضد الله، أو الطبيعة، أو الفن، يقفون حفاة فوق رمال حامية، وتسقط على رؤوسهم كسف من النار”. وحسب ذلك أن كل مت عنّف مجتمعه وقام على قتلهم وتجويعهم وارعابهم وتخويفهم وتهجيرهم وكذلك المنافقين سيكونوا في جحيم دانتي ينالون جزاء ما فعلوا في حيواتهم تجاه شعوبهم. كذلك قالها لنا تعالي في كتابه الكريم أن الظالمين سيكون عذابهم كبيراً؛ ﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ سورة الأعراف 41. و ﴿إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء﴾. وكثيرة هي الآيات التي قيلت في الذين استكبروا على شعوبهم ومجتمعاتهم وأذلوهم وأنكروا عليهم آيات الله في اللغة والثقافة والعرق والدين والعدل.
المشرق المتوسطي تعيش مخروط الجحيم الذي رسمه دانتي بكل تفاصيله الدقيقة ومستوياته التسعة التي أُعِدّت لكل حاكم جائر وانسان منافق لم يراعي المعني الأخلاقي للقيم المجتمعية التي كانت السبب في التطور البشري والعمراني والحضاري التي شهدتها منطقتنا عبر التاريخ. التاريخ الذي ينبغي قراءته بروح من المسؤولية وبعقلية نقدية للتخلص من كل ما يعيق التطور الفكري للإنسان. وربما يكون التفكير خارج ما تعلمناه أو ما علموه لنا بداية المسيرة الطويلة التي ينبغي ان نسير في دربها للتخلص من كافة الأدران والعلقات التي تعيق مسيرتنا الفكرية تلك. وربما لنا في الثورة الأوروبية وفلاسفتنا العبر التي يمكننا أن ننهل منها كي نرسم وسائل وأدوات العملية الانتقالية التي ينبغي ان تجاوزها.
سؤال “كيف نعيش؟” الذي طرحه السيد أوجلان من خلال كتبه التي خطّها من أجل انقاذ المجتمع والانسان من مستنقع الجهل المجتمعي والعائلي الذي وضعونا به، ربما كان من أصعب الأسئلة التي طرحها وراح يبحث عن جواب له في خضم محاولات عبور نفق الجهل الذي كنا نلتحف به خوفاً من المستقبل. كيف نريد أن نعيش المستقبل من كافة جوانبه المعرفية والفكرية والحياتية يجب ان نردده دائماً كي نتصور العالم الذي نريده ونسعى إليه. فمن دون طرح السؤال، لا يمكن لنا أبداً في السير في طريق النجاح. لأن طرح السؤال بحدِ ذاته يعتبر أول خطوة في طريق الشك للوصول إلى اليقين. فمن دون الشك لا يمكننا أن نصل للحقيقة مهما كانت قريبة أو بعيدة. علينا أن نشكل في كل شيء ونضعها في مختبر التجربة العلمية كي نكتشف حقيقة ما نصبو إليه. كيف نعيش مع ذاتنا ومع الآخر في بيئة سليمة يكون فيها الكل مع الكل لبناء المجتمع والانسان الحر الكريم.
للخروج من جحيم دانتي والوصول إلى فردوسه بعد عبور مرحلة المطهر لا بُدَّ لنا من أن إحياء الروح وتطهيرها وكافة الماديات التي أعمتنا عن حقيقتنا المجتمعية وجعلتنا نلهث وراء المال والسلطة والاستهلاك وتنميط المجتمع وتقزيمه وجعله مجتمع تافه بفنانيه ورياضييه ومثقفييه وحتى زعمائه والمخلدين. بناء المجتمع والمستقبل لا يتم إلا من خلال ثورة ذهنية كبيرة تقلب معظم المفاهيم والمصطلحات بعد نزع هالة القداسة عنها ونتحرر من أسرها، وبعدها وضعها في مختبر علم الاجتماع لتنقيتها من الشوائب وصقلها وإعادة تعريفها من جديد. حينها يمكن إعطاء معنى للحياة التي نبتغيها ونخرج من جحيم دانتي لفردوسه والعيش في محبة الله التي هي أسمى مراحل التعاضد الإنساني والبعيدة عن البغض والكراهية العصبية القومية والدينية والمتطرفة. مجتمع مبني على أساس أخوة الشعوب فيما بينها واحترامها لبعضها البض برغم كافة الاختلافات الثقافية الموجودة وكذلك وفق فلسفة العيش المشترك فيما بينها لبناء مجتمع الأمة الديمقراطية التي تحتضن الكل من أجل الكل.